سياسات الإصلاح الاقتصادى.. وبداية ظهور منظمات حقوق الإنسان وسط العمال

فاطمة رمضان
فاطمة رمضان

آخر تحديث: السبت 28 أكتوبر 2017 - 9:20 م بتوقيت القاهرة

فى الجزء الأول والمعنون بـ«منظمات حقوق الإنسان.. ما بين الدور المفترض والواقع» أشرنا إلى أهمية الدور الذى قامت به منظمات حقوق الإنسان خصوصا وسط العمال، من ضمنها مساندة ضحايا السياسات الحكومية، وكذلك التقاضى الاستراتيجى والذى ساعد فى إقرار حد أدنى للأجور ــ غير ملائم وغير معمم على كل العاملين ــ، وكذلك أدى لاسترداد عدد من شركات القطاع العام التى بيعت بالفساد، كما أدى، ــ بخلاف القضايا العمالية ــ إلى تغيير تعاقدات الدولة فى الأراضى التى بيعت بسعر بخس، مثل قضيتى مدينتى وبالم هيلز.

كما أشرنا بشكل سريع إلى أن هناك وجها آخر لعمل هذه المنظمات ساهم ــ إلى جانب عوامل أخرى ــ فى إرباك الحركة العمالية.

فقد أنتج تفاعل مراكز المجتمع المدنى كل على حدة مع حركة عمالية ونقابية مفتتة إلى عدم وضع خطط استراتيجية لكيفية بناء النقابات والاتحادات يعمل عليها الجميع، وظل الموضوع فى معظم الحالات رهنا بالنقابات التى تتأسس وتبدى رغبة فى الانضمام للاتحادات. لذا ظهرت النقابات الورقية، والتى ساهمت وزارة القوى العاملة فى الاعتراف بها بدون أن يكون لها وجود على أرض الواقع، وهو ما أغرق النقابات الحقيقية فى بحر من النقابات الورقية التى لا أساس لوجود عضوية بها، كل ما تملكه هو قيادات انتهازية تطلب الحق فى التمثيل فى الاتحادات، وبالتالى فى المنافع. كما كان لهذا الوضع غير المخطط له أن نهلت النقابات الجديدة من الخبرة القديمة الخاصة بالاتحاد الحكومى فى الشكل الرأسى للتنظيمات ــ على الرغم من ورود الكثير من محاولات ضمان الديمقراطية فى اللوائح ــ ولم يتم ابتكار أشكال جديدة للتنظيم تساعد فى بناء نقابات واتحادات حقيقية. هذا بالإضافة إلى إهدار موارد المنظمات فى تكرار نفس الأنشطة مع نفس الأشخاص فى الكثير من الأحيان، ومحاولة كل منظمة إبراز القيادات النقابية التى على علاقة بها دون باقى القيادات.

كما أنتج هذا التفاعل من جانب المراكز الحقوقية كل على حدة ــ فى حالة من التنافس لا التضامن والشبكية بخطط وأهداف لتطوير الحركة وتقويتهاــ إلى خلق حالة من الاعتمادية وسط النقابات والاتحادات الوليدة، مما جعل القائمين على الاتحادات تتوجه أنظارهم لخارج هذه الاتحادات فى اتجاه من يعتمدون عليهم فى تدبير شئونهم، وانشغالهم عن قواعد العمال، وعن مساندتهم فى احتجاجاتهم ومطالبهم، بالتناحر على السفر للمؤتمرات وتمثيل عمال هم أبعد ما يكون عنهم. أدى ذلك فيما بعد إلى تضييق دوائر اتخاذ القرارات فى النقابات والاتحادات المستقلة، وفى النهاية إلى انفضاض العمال عن نقابات واتحادات لا تقدم لهم ما يحتاجون إليه.

***

تاريخيا كان العمال يعتمدون على صيغ للتضامن فيما بينهم تجمعهم وتجعلهم يستمرون فى نضالهم، بجمع النقود فيما بينهم ومن المحيط الأوسع من الحاضنين للحركة، وكان أغلبهم من اليساريين، وذلك لتوفير أجر من فصل منهم بسبب الدفاع عن حقوق العمال، أو مساعدة الأسر التى حُبس عائلها، وصولا لتغطية كل أنشطتهم النضالية، حتى إن العمال قد جمعوا فيما بينهم قبل حريق القاهرة مباشرة تكلفة سفر يوسف المدرك ليشارك باسمهم فى المؤتمر السنوى للاتحاد الدولى للنقابات، حتى يصبح عمال مصر أعضاء فى الاتحاد.

وربما كانت لجنة التضامن مع عمال الحديد والصلب فى عام 1989، آخر محطة مهمة من محطات التضامن قبل ظهور المراكز الحقوقية وسط العمال، والتى قال عنها محمد عبدالسلام البربرى، اليسارى ورئيس نقابة عمال شركة شندلر وقتها وأحد الذين تم القبض عليهم من المتضامنين: «فقد كنا قد أنشأنا لجنة للتضامن مع عمال الحديد والصلب، وكان مقرها حزب التجمع بحلوان، ضمت عمالا من حلوان، مثل محمد زكى الحفناوى بشركة المطروقات، ومحمود مرتضى بشركة تركيبات أوراسكوم، ومن المحلة دسوقى من شركة التجهيز والصباغة، ومن السويس محمد شعلة، ومن الإسكندرية د. محمد حبشى من التأمين الصحى، ومن شبرا الخيمة أحمد الصياد، وصابر بركات. كما ضمت عددا من القيادات اليسارية فى مجالات مختلفة مثل فخرى لبيب، أمير سالم، هشام مبارك، مصطفى السعيد ومدحت الزاهد». يُكمل محمد: «كونّا صندوقا للتضامن كنا نحاول من خلاله تغطية احتياجات العمال واحتياجات بعض بيوتهم. وكنا نقوم بالبحث عن الأقسام التى ذهب إليها العمال وإبلاغ أهاليهم بمكانهم حتى يزوروهم، فقد تم القبض على أكثر من ألفى عامل، ثم تم تقليص العدد الذى ذهب لأبى زعبل فى النهاية، ولكنهم فى البداية تعاملوا معهم بشكل إجرامى فى قسم التبين، والذى يقع أمام المصنع مباشرة فألبسوهم البدل الزرقاء، وقاموا بقص شعورهم، وأهانوهم بشكل غير عادى، وفى أبى زعبل قاموا بنفس الشىء». كما تم إلقاء القبض على كل المتضامنين مع العمال الذين ذكرناهم سابقا وآخرين وتعرضوا للتعذيب، الذى عرض حياة الصحفى المرحوم محمد السيد سعيد، وكمال خليل للخطر لولا زيارة نقابة الصحفيين وقتها، والتهديد بالتصعيد».

***

بدأ ظهور منظمات حقوق الإنسان الخاصة بالعمل فى وسط العمال مع بداية تنفيذ النظام الحاكم لسياسات الإصلاح الاقتصادى. فبعد مراحل من الاتفاقيات والتى بدأت فى السبعينيات من القرن الماضى، وصلت لمرحلة اتفاق مايو 1991 بين الحكومة المصرية وصندوق النقد الدولى، والذى أدى إلى تحرير الأسعار، وبالتالى انخفاض أجور العمال فى الفترة من 85 /1990 بنسبة 50%، بالإضافة إلى تخفيض الإنفاق العام فى الموازنة فى إطار خطة تقليص العجز، وهوما دفع الكثير من الأسر لتوجيه جزء أكبر من دخولها نحو التعليم والصحة.

وبعد صدور قانون قطاع الأعمال العام رقم 203 لسنة 1991 بدأت مرحلة جديدة فى مسيرة القطاع العام، حيث وفر القانون غطاء شرعيا للتخلص منه بخصخصته. تبع ذلك تغيير منظومة القوانين المنظمة لعلاقات العمل، بحيث أصبحت حقوق العمال فى مهب الريح بعد أن كانت مضمونة بحكم قوانين الحقبة الناصرية.

ولم يتحرك برنامج الخصخصة إلا بعد العمل بنظام المعاش المبكر سنة 1997، وبالتالى فلا غرابة فى أن الحراك العمالى قد بدأ بعد ذلك، وازدادت وتيرته بعد حكومة نظيف، مع الدخول فى مرحلة السياسات النيوليبرالية، وصولا لعام 2006 وما بعدها من حراك عمالى استمر فى الصعود حتى عام 2013.

فى ذلك الوقت أتيحت حرية الرأسمال فى التنقل، وحرية أصحاب الأعمال فى انتقاص حقوق العمال وجعل علاقة العمل مؤقتة بعد أن كانت دائمة، وصولا لحقهم فى فصل العمال من العمل، مع عدم إلزامهم بعودة العمال لأعمالهم، حتى فى حال حصولهم على أحكام قضائية بالعودة، وغيرها من الهجمات على حقوق العمل التى فتح قانون العمل 12 لسنة 2003 أبوابا كثيرة لها. وعلى عكس هذه السياسة لم تُترك الحرية للعمال فى تأسيس تنظيماتهم المستقلة للدفاع عن حقوقهم، بل ازدادت قبضة الدولة بما فيها القبضة الأمنية والإدارية على التنظيم النقابى الوحيد المفروض على العمال، وهو اتحاد نقابات عمال مصر ونقاباته. وازدادت الفجوة بين العمال فى القواعد، وبين قيادات الاتحاد والتى كانت تأتى رغما عن إرادة العمال بترتيبات من الدولة بأجهزتها المختلفة. بدأ العمال يعبرون علانية عن رفضهم لهذه النقابات، كونها تابعة للحكومة وأصحاب الأعمال، ولا تعبر عنهم ولا تدافع عن حقوقهم.

***

فى هذا الوقت كانت منظمات المجتمع المدنى واللجان العمالية المختلفة التى تأسست بمثابة متنفسا للعمال الطليعيين تحديدا. فقد كانت تقوم بدور فى تجميع القيادات القديمة، بما لها من تراث نضالى، مع عمال جدد من مناطق صناعية جديدة يتطلعون لمعرفة حقوقهم، إلى جانب تقديم الدعم القانونى للعمال، الذين أصبحوا فى أشد الحاجة إليه، بالإضافة للدعم الإعلامى من خلال التعريف بقضايا العمال ومشكلاتهم، وتغطية احتجاجاتهم، وإظهار مطالبهم عبر بيانات هذه المنظمات، وعبر حضور عدد من الصحفيين لهذه الاجتماعات وتغطية الأحداث المهمة منها. كما قامت العديد من المراكز بعمل دورات تدريبية للعمال، وكذلك بالعمل على رصد وتجميع احتجاجات العمال فى تقارير شبه دورية. كما عمل ــ وما زال يعمل ــ العديد من المراكز الحقوقية بالتعاون مع قيادات عمالية، وبعض القوى السياسية على مناقشة القوانين التى تطرح مسوداتها فيما يخص العمال، بل وطرح بدائل لمسودات الحكومة من هذه القوانين.

هكذا رأينا كيف كانت منظمات حقوق الإنسان تلبى احتياجات حقيقية لدى عمال محرومين من تنظيم نقابى حقيقى يعبر عنهم ويدافع عن حقوقهم، خصوصا مع بداية سياسات الإصلاح الاقتصادى ثم الدخول فى مرحلة السياسات النيو ليبرالية. كذلك رأينا كيف ساهمت طريقة عمل هذه المنظمات بشكل تنافسى ــ مع عوامل أخرى ــ إلى إهدار فرصة محتملة لبناء تنظيمات حقيقية للعمال.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved