نصفي الأفضل

تمارا الرفاعي
تمارا الرفاعي

آخر تحديث: الأربعاء 28 أكتوبر 2020 - 9:55 م بتوقيت القاهرة

يمر يوم دون أى حدث. يوم عادى بتفاصيل حياتية يومية لا تستحق نشرة أخبار عبر الهاتف لصديقة أو لأمى. يوم يبدأ باكرا وينتهى متأخرا لا ملامح معينة له. أجلس أمامه فى هدوء بيت ينام أطفاله وأحكى.
***
أحكى قصصا كثيرة وأثور ثم أهدأ، تفاصيل أكررها عن موضوع صغير لكنه كبير فى رأسى. يستمع إلى ويسأل أسئلة محددة عن شعورى تجاه تفصيل أو كلمة. يصمت طويلا وأنا أكرر القصة ثم يسأل ويستمع.
***
هو نصفى الأعقل، ذلك الشخص الذى يضع الأمور فى مكانها بعد أن أرميها كلها فى وجهى ووجهه وأغرق فى التفاصيل. برتابة ودون أى استخفاف يمسك تفصيلا فيعيده إلى مكانه فى القصة بينما أتوه فى دهاليز مظلمة. ينير شمعة فأراه يمسك طرف الخيط. يسألنى إن كنت فعلا مستعدة أن يسحبه ثم يسحب خيط التفاصيل ليفردها أمامى ويعيد سرد القصة كما فهمها. أراها كما يشرحها لى رغم أنها قصتى إنما وضعها فى إطار فأعطى كل تفصيل حقه دون أن يخرجه عن حجمه.
***
هو نصفى الأهدأ، ذلك الذى يحتفظ برأسه فوق الماء حتى حين تبلل القطرات وجهه والنظارة. له قدرة عجيبة على وضع نفسه خارج السياق حتى يراه ويرى نفسه فيه دون أن يتعثر. يمسك بيدى ويمشى معى خارج الكراكيب ليساعدنى أن أرى أنها كراكيب.
***
هو نصفى الأصدق فمعه لا أوارب، أتعلم كل يوم معنى أن أقول الشىء كما هو، فالدقة تمنع سوء التفاهم. أشعر أن فى يدى إزميل أنحت به الكلمات لتخرج صافية واضحة لا لبس فيها.
***
هو نصفى الأقل ثقلا فقد علم نفسه أن يرمى بالثقل على حافة الطريق ويكمل. يتوقف أحيانا لينظر حوله ويرى المسافة التى قطعها ويحسب وزن ما تركه خلفه من هموم تعلم ألا يحملها على كتفيه.
***
هو نصفى الأكثر جرأة، كيف لا وهو يسخر من سلاسل يرى أنها تكبل الفكر فلا يسمح لها أن تعرقل حرية أفكاره.
***
هو نصفى المتصالح مع نفسه فيعترف بأخطاء يرتكبها ويعد أن يتعلم منها ولا يدعها تعذبه. يرى أن الخطأ وارد وعدمه مستحيل لذا فلا داعى لجلد الذات.
***
أعيش معه منذ سنوات وتمر أيام دون أى حدث ولا قصص ودون ضجر. ضحكت بعد أسابيع من الحجر وعدم الاختلاط بأى أشخاص آخرين حين فهمت أنه استحملنى واستحملته لذا فأظن أننا قد نجلس فعلا يوما ما على شرفة منزل ننظر إلى ما قطعناه من طريق معا دون أن نضجر. قد تمضى ساعات لا نتبادل خلالها الكلام ولا أتذمر أو أقلق.
***
أخاف من الضجر فأقيس سعادتى على مستوى تسليتى وأتساءل كيف لى أن أمضى ساعات معه دون كلام وأيضا دون ضجر. كنت أخاف من الارتباط بسبب خوف من الضجر. ضجر الحياة الرتيبة المشتركة، ضجر التفاصيل اليومية، ضجر أن تنتهى القصص قبل أن تنتهى حياتى.
***
أكتشف أن القصص لا تنتهى وأن كل يوم هو أصلا قصة يمكننى أن أحكيها له قبل النوم دون أن يعرف أننى أحكى عن يومى معه. أكتشف أيضا أن الحياة، أى حياة، ليست خطا مستقيما كما كنت أظن فى سنوات الشباب. الحياة مشكال يعكس ألوان الكون كله وتلعب أشعة الشمس معه فأنبهر تارة وأغمض عيناى تارة أخرى.
***
أستمتع برقصة النور والظلام وتغير التفاصيل مع تغيير الألوان. هنا غمزة تظهر وتختفى وهنا ضحكة أسمعها قبل أن أراها. هنا مرض يجعلنى أحلف أن أعتنى بمن حولى بشكل أفضل وهنا قلق يجعلنى أشتاق إلى يوم ملامحه مدفونة وأعد أننى لن أتذمر قط من الضجر بعد اليوم.
***
هكذا كل ليلة أستكين وأنظر إلى غرفة جلوس فيها بقايا يوم عادى، هنا كوب الشاى وهناك كتاب ولعبة، وكلمات كتبتها حتى أتذكر شيئا ونسيتها على طرف ورقة على المكتب ورقم هاتف لا أعرف لماذا كتبته.
***
هو نصفى الذى سوف أجلس معه يوما على الشرفة أحاول أن أذكره بتفاصيل نسى كثيرا منها مع أنه يتذكر أثرها عليه، فهو قريب جدا من نفسه ويحفظ تضاريسها دون أن يخبئها.
***
سوف أتعلم أننى قد أتمسك بتفاصيل وأعاتب نفسى بقسوة إنما على أن أرميها على الطريق كما يفعل هو. لن أنجح فى كثير من الأحيان بتجاهل مصدر الإزعاج إنما قد أتعلم أن أعطى التفصيل حجمه فى صورة أكبر يساعدنى هو أن أراها بشكل أوضح. يقول إن على أن آخذ بضع خطوات إلى الخلف وأعيد النظر حتى أفهم حجم التفصيل وقد يغير ذلك من موقفى.
***
وأنا أؤكد له أننى سوف أعيش معه سنوات طويلة على شرط أن يستمع إلى حتى لو فقدت نصف عقلى وحكيت له تفاصيل غير مترابطة. عندها لن يهم ما أقول طالما بقى جالسا معى على الشرفة فى ليلة خريفية كتلك الليلة التى التقيته بها، حين استمع إلى دون أن يقاطع أو يحكم أو يستخف. أعود بخطواتى إلى الخلف وأراه مسترخيا فى آخر يوم عادى عشته بتفاصيل كبيرة وصغيرة وها أنا أتكلم وهو يستمع.

كاتبة سورية

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved