«رصاصة الدلبشاني».. اللاعبون والدمية
محمود عبد الشكور
آخر تحديث:
السبت 28 أكتوبر 2023 - 10:15 م
بتوقيت القاهرة
كتبت ذات مرة إن الرواية والفن عموما لا يكتبان التاريخ، حتى لو عملا على وقائع وشخصيات تاريخية حقيقية، ولكنهما يعيدان قراءة التاريخ، من خلال رؤية الفنان.
وبينما يتحرى المؤرخ الوثيقة الدامغة، والمنهج الصارم، الذى لا يغفل مرجعا، بل ويسجل المراجع فى كل فقرة وصفحة وفصل، فإن الروائى والفنان، يقدم مزيجا معقدا من الواقع والخيال، ويتحرى منطقا فنيا موازيا ومتسقا.
ورغم أن الروائى يدرس موضوعه، وتفاصيله، والمرحلة التاريخية التى يكتب فيها، فإنه يريد بذلك تحقيق الإيهام الفنى، وليس التوثيق التاريخى، ولذلك نعتبر الخلل فى التفاصيل خطأ فنيا وليس تاريخيا، بعكس خطأ المؤرخ، لأن الأخير مطلبه التوثيق، ولأنه يحقق ما وقع فعلا، وليس ما يتخيل حدوثه.
هذه رواية تاريخية ذكية يمكن أن توضح معنى هذا المزيج المعقد، عنوانها «رصاصة الدلبشانى»، لمؤلفها د. إيمان يحيى، وصدرت عن دار الشروق، وأحداثها قائمة على واقعة حقيقية وخطيرة، ولكنها ظلت غامضة ومهمشة، وهى محاولة اغتيال سعد زغلول باشا فى صيف العام 1924، وكان الرجل وقتها رئيس الوزراء، ووزير الداخلية أيضا.
أطلق عليه النار شاب متطرف ينتمى للحزب الوطنى فى محطة باب الحديد، فأصابه برصاصة، لم تقتل الزعيم، ولم يستخرجوها من جسده، خوفا عليه من مضاعفات مرض السكر، ورغم أن الشاب، واسمه عبداللطيف عبدالخالق الدلبشانى، اعترف بإطلاق الرصاص، وشهد عليه عدة شهود، إلا أن المسدس الذى أطلق منه النار اختفى.
ورغم تشعب التحقيقات، واستدعاء وحبس كثيرين، بل وفتح ملفات أخرى لأنشطة سياسية تتعلق بالشيوعيين، وبمؤامرات الخديوى السابق عباس حلمى، لاسترداد عرشه من الملك فؤاد، فإن قضية الدلبشانى انتهت بالحفظ، بعد إحالة عبداللطيف إلى مستشفى الأمراض العقلية. أصبحت المحاولة، هى قضية الاغتيالات السياسية الوحيدة، التى لم تنته إلى محاكمة، بل لم يعد لها ذكر بعد عام، على حد تعبير سعد زغلول نفسه فى مذكراته.
هذه وقائع التاريخ الرسمى، ولكن د. إيمان اختار الحادثة لكى يرجح طرفا مسئولا عن الجريمة، ولكى يعيد قراءة تفاصيلها، ويحفر وراء أبطالها وشخصياتها، كما اعتبر الرصاصة الطائشة فرصة لاكتشاف عالم السياسة ودهاليزها، فى سنة هامة وفارقة هى العام 1924، للتفرقة بين لاعبين وراء الستار، وأدوات مثل الدمى من المتطرفين.
يمكن أن نقول إن الرواية عن السياسة بوجهيها: الغامض الناعم والماكر، والعنيف الظاهر والمتهور، وكأن المعركة تدور على مستوى الرصاص، وعلى مستوى المؤامرات والدسائس فى نفس الوقت.
وبينما يبدو عبداللطيف الدلبشانى فى حماقة رصاصته، فإن اللعبة الحقيقية تدور ما بين سعد زغلول، والإنجليز (ويمثلهم فى الرواية مساعد حكمدار القاهرة إنجرام بك)، والملك فؤاد (ويمثله فى الرواية رئيس الديوان وقتها حسن نشأت باشا). وهكذا يعاد بناء القصة التاريخية، وسد ثغراتها، وصنع معادل فنى كامل لوقائعها، وتمرير أفكار المؤلف ورؤيته، وأوضح عناصرها إظهار حماقة التطرف والمتطرفين، وتعقيدات لعبة السياسة، وحروبها المعلنة والخفية، التى تستلزم أحيانا التواطؤ على الحقيقة، وتجاهل أحداث خطيرة، انتظارا لجولات أخرى.
تتناوب السرد أصوات عبداللطيف، وزميله القابع فى المنصورة عبدالحميد الطوبجى، وإنجرام بك، ولكن لن يكشف أبعاد المؤامرة، وأسباب حفظ التحقيق إلا صوت حسن نشأت، وصوت سعد رغلول، أى سيختتم السرد بصوت المتآمر، والمتآمر عليه.
والبناء بأكمله يأخذ شكل الحبكة البوليسية المثيرة، ولكنك ستكتشف سخرية كامنة، فالفاعل المعلن معروف، واعترف على نفسه، والفاعل المستتر يعرفه سعد، بينما نشأت وإنجرام بك يتحدثون بالتفصيل عن المؤامرة، ولكن أحدا لن يحاكم، أى إنها جريمة لها فاعل وتحقيقات، ولكن دون قضية!
هكذا تغلبت فرضية تآمر القصر والإنجليز، وفسرت أسباب التواطؤ والتجاوز، وهكذا أيضا اتسعت الرؤية من الجريمة، إلى قراءة لعبة السياسة فى تلك الفترة، مع إدانة ضمنية للعقول المتطرفة، التى ارتكبت كوارث فى التاريخ المصرى، تحت لافتات وطنية أو دينية، بل إن مقتل السير لى ستاك على أيدى المتطرفين، كان سببا فى استقالة سعد زغلول، وإضعاف موقفه.
تضع الرواية يدها كذلك على أحداث مهمشة، فتأخذها إلى المقدمة، مثل النشاط الاشتراكى والشيوعى، وبالذات فى مدينة المنصورة، ومؤامرات الخديوى السابق عباس حلمى على الملك فؤاد، ونشاط الشباب المصرى الذى يدرس فى ألمانيا، وانقسامه بين متطرفين، وأنصار للوفد.
هذه إذن ليست مجرد رصاصة وجريمة، ولكن يمكن أن تحمل الرواية أيضا اسم السنة «1924»، ومحاولة الاغتيال عظيمة الدلالة فى تفكيك كل عناصر المؤامرة، والصراع السياسى على السلطة، ورصاصة الدلبشانى الحقيقية أطلقها التطرف والتآمر، وليس عبداللطيف.
هنا قراءة جديدة ولامعة، وبناء فنى مادته التاريخ، وإن كانت ثمة ملاحظات أبرزها هيمنة المادة المعلوماتية على التفاصيل الإنسانية، ورغم تفهم أن تكون شخصية عبداللطيف بالذات أحادية الجانب، إلا أننا افتقدنا صراعا داخليا متوقعا، ولو على مستوى ما سببه لأسرته من متاعب بعد القبض عليه، وافتقدنا أيضا صراعا هاما يفترض أن يدور فى داخله، نتيجة استنكار رموز الحزب الوطنى لمحاولة الاغتيال، كما أن لعبة ادعاء الجنون جرت بسهولة، وكان يمكن أن تضيف قوة أكبر إلى الصراع، بالإضافة إلى مشكلة عدم التوازن بين أحجام فصول السرد.
من ناحية أخرى، فإن صوت عبدالحميد الطوبجى كان لازما لوصف النشاط الشيوعى والاشتراكى فى المنصورة، ولكنه بدا منعزلا عن محاولة الاغتيال، أو بمعنى أدق، تم استبعاد عبدالحميد مبكرا من الاشتباه، فصار غير مؤثر على مصير زميله، رغم أن عبداللطيف هو أصل القصة ومحورها.
ولكن قراءة الحادثة التاريخية صنعت فى النهاية حكاية فنية موازية، والشخصيات الواقعية صارت شخصيات فنية تماما، وتخمينات سعد فى مذكراته صارت أساسا للحبكة.
أما الرصاصة الطائشة، فقد صارت تصويبا فى الصميم، موجها للتآمر والتطرف، فى كل زمان ومكان.