بعد ثلاثة أسابيع من دك إسرائيل لغزة
إبراهيم عوض
آخر تحديث:
السبت 28 أكتوبر 2023 - 10:10 م
بتوقيت القاهرة
غداة عملية السابع من أكتوبر التى شنتها «حماس» فى داخل الأراضى الإسرائيلية وراح ضحيتها أكثر من ألف من الإسرائيليين، اختارت إسرائيل الثأر وصبت جام قنابلها وصواريخها، بلا قيد ولا حدود، فى الأسابيع الثلاثة الماضية على قطاع غزة وسكانه. الضحايا الفلسطينيون من سكان غزة تعدوا حتى الآن السبعة آلاف، أما الجرحى فتخطوا العشرين ألفا. لا غرابة فى كفاءة القوات الإسرائيلية فهى تطلق قنابلها وصواريخها بلا عائق يعرقلها، فغزة مباحة لا دفاع جويا لها ولا قبة حديدية. غضت إسرائيل الطرف عن كل قواعد القانون الدولى الإنسانى فتجاهلت مبدأ التناسب فى استخدام القوة مثلا، ولم تلتفت إلى تفادى استهداف المدنيين ولا إلى عدم إصابة المرافق الإنسانية كالمستشفيات بل هى فرضت إغلاقا تاما على القطاع فحرمت سكانه من الغذاء والماء والدواء والوقود.
• • •
ثار تساؤل فى الأسبوع الماضى على الأقل عما إذا كانت عملية «حماس» فى محلها، طالما أن القاصى والدانى يعلم أن رد إسرائيل عليها سيكون فى منتهى القسوة. ألم تعرض «حماس» بعمليتها وممارستها للعنف تجاه العسكريين والمواطنين الإسرائيليين، ألم تعرض سكان غزة لأن تفتك بهم إسرائيل كما هى تفعل منذ ثلاثة أسابيع؟ التساؤل ولا شك وجيه. غير أنه، وكما قال الأمين العام للأمم المتحدة أمام مجلس الأمن يوم الثلاثاء 24 أكتوبر، لم يحدث هجوم «حماس» ولا العنف الذى مارسته من فراغ. كاتب هذا المقال يعتبر أن دوامة العنف لا يمكن أن تكون السبيل إلى تسوية مقبولة لأى نزاع. ولكن، ما هو العنف؟ العنف لا يقتصر على العنف المادى الملموس الذى يتخذ شكل النيران، بدءا من تلك التى تطلقها الأسلحة الصغيرة، مرورا بالمتفجرات والقنابل التى تقذفها الدبابات والمدافع، وحتى تلك التى تسقطها الطائرات المسيرة والطائرات المقاتلة وقاذفات القنابل. حتى هذا العنف المادى الأكثر بروزا، إسرائيل هى البادئة به، وأبسط البيانات على ذلك، وبدون الرجوع إلى الوراء كثيرا وإلى أشكاله الجماعية الأكثر فتكا، هو أنه فى السنة الجارية وحتى منتصف أغسطس الماضى وصل عدد الفلسطينيين القتلى فى الضفة الغربية وحدها إلى 167 قتيلا، بينما كان عدد القتلى فى سنة 2022 كلها 155 قتيلا. القتلى فى سنة 2023 هم الأعلى عددا منذ سنة 2005، وهو ما يعنى أننا بصدد تصاعد فى العنف المادى الإسرائيلى، الذى يمارسه كل من الجيش والمستوطنون، فى حق ذلك الجزء من الشعب الفلسطينى الذى يقطن الضفة الغربية. فى نهاية الستينيات من القرن الماضى، صدرت عن العالم النرويجى الشهير فى دراسات السلام، يوهان جالتونج، دراسة ليست أقل شهرة بعنوان «العنف، والسلام، ودراسات السلام»، بين فيها أن العنف ليس ماديا مباشرا فقط، بل إنه يوجد عنف بنيوى مؤسسى تتعدد أشكاله ومن بينها العنصرية والحرمان من تلبية الاحتياجات الأساسية لمن يخضعون له. الأمر بالنسبة للشعب الفلسطينى لا يقتصر على العنصرية، هو فصل عنصرى، أبارتايد، القليلون من يحاجون اليوم فى وجوده، يحرمه من الموارد ويتعسف فى التحكم فيه ويشل من قدرته على تدبير شئون حياته. أما فى غزة تحديدا، فالحصار المفروض عليها منذ ستة عشر عاما يخنق سكانها ويحرمهم من إنتاج السلع والخدمات التى تحتاجها حيوات البشر، ومن العمل والتعليم والصحة وغيرها. يقول جالتونج إن العنف البنيوى والعنف المباشر مرتبطان ارتباطا وثيقا بمعنى أن هذا يولد ذاك، وأن ذاك يؤدى إلى هذا. المسألة ليست تبريرا للعنف وإنما هى تفسير لكيفية نشأته واستمراره. العنف مستهجن وهو مدان أيا كان مصدره، خصوصا عندما يرتكب بحق المدنيين، ولكن يبقى للمحلل أن يكشف عن دورته، البادئ بالفعل فيها والقائم برد الفعل.
من زاوية أخرى، يمكن اعتبار أن إسرائيل دفعت بعض مكونات الشعب الفلسطينى دفعا إلى أن يمارس مقاومة يمكن أن تلجأ إلى العنف. مع الاعتذار عن ذكر ديانته، فإن الصحفى والمحلل السياسى الأمريكى، يهودى الديانة، بيتر بينارت كتب فى الأسبوع الماضى، وبعد أن عبر عن ألمه على ضحايا السابع من أكتوبر، كتب يقول إن إسرائيل ومعها الولايات المتحدة وحلفاؤها لم تترك للشعب الفلسطينى مجالا للمقاومة السلمية بل هى حرصت على إغلاق جميع سبلها فى وجهه، وأعطى مثالا على ذلك حرص هذه البلدان جميعها على إفشال حركة مقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها التى اتسعت فى السنوات الماضية بين الدوائر الأكاديمية وغيرها، بما فى ذلك فى الولايات المتحدة نفسها.
• • •
عملية السابع من أكتوبر ورد إسرائيل الوحشى عليها أعاد إلى حلبة النقاش مجمل القضية الفلسطينية وممارسة الشعب الفلسطينى لحقوقه وأولها حقه فى تقرير المصير. المدخل إلى هذه العودة كان مزدوجا. أولا كان إدخال الرعب فى روح سكان غزة وإيحاء إسرائيل لهم بالهرب من المحرقة التى نصبتها لهم. الفلسطينيون فى غزة أعلنوا مرارا أنهم لن يغادروا أرض فلسطين ولن يقعوا فى نفس الفخ الذى وقع فيه آباؤهم وأجدادهم فى سنة 1948 عندما نفذت إسرائيل الخطة «دال» التى وثق لها المؤرخ الإسرائيلى إيلان بابيه فى كتابه «التطهير العرقى لفلسطين»، وهى الخطة التى رصدت بها الحركة الصهيونية منذ النصف الأول من أربعينيات القرن الماضى القرى الفلسطينية وأنشطتها الاقتصادية وسكانها الذين أرهبتهم بعد ذلك ودفعتهم إلى مغادرة ديارهم واللجوء إلى الدول العربية المجاورة ثم حالت دون عودتهم. أما ديارهم فلقد صادرتها إسرائيل بمقتضى قانون الغائبين ومنحتها للمهاجرين إليها. أحداث الأسابيع الثلاثة الأخيرة أعادت إلى الحياة أصول القضية الفلسطينية وفى قلبها مسألة اللاجئين. والمدخل كان ثانيا إدراك أن الشعب الفلسطينى لا يستكين خاصة أن أى أمل قد تراءى له، مثل اتفاقية أوسلو التى حرصت إسرائيل بسياسة قصدية ممنهجة على إفشالها، بينت الأيام والسنون أنه ليس إلا سرابا، لا واقع يمكن بلوغه. أدركت ذلك دول المنطقة، حتى تلك التى ظنت أنه يمكن التغاضى عن تسوية القضية الفلسطينية أو تأجيلها إلى أجل غير معلوم، من أجل التفرغ لعمليات البناء والتنمية فيها. تسوية القضية الفلسطينية ضرورية للاستقرار الذى لا غنى عنه لعمليات التنمية. إنكار حقوق الشعب الفلسطينى والعنف المتمثل فى ظروف العيش المفروضة عليه ليست فقط البيئة التى تولد عدم الاستقرار، بل هما عدم الاستقرار نفسه. أما خارج المنطقة، خاصة الولايات المتحدة وحليفاتها الغربية، فمسئولوها هرعوا فى الأسبوعين الأولين إلى إسرائيل يواسونها ويشدون من أزرها ويكررون مرة بعد الأخرى التأكيد على حقها فى الدفاع عن النفس. لم يتساءلوا عن شرعية الدفاع عن النفس لسلطة احتلال تنتهك القانون الدولى الإنسانى، وفى مجلس الأمن كان جوهر مواقفهم من مشروعات القرارات المقدمة إليه هو إتاحة الوقت لإسرائيل لكى تنفث عن غضبها بإمطار الشعب الفلسطينى فى غزة بالقنابل والصواريخ.
غضب إسرائيل طال سكان الضفة الغربية أيضا الذين قتلت فوق المائة منهم منذ السابع من أكتوبر. إلا أن الولايات المتحدة وحليفاتها، وعلى ما يبدو، بدأت فى لجم إسرائيل فى الأسبوع الأخير محذرة إياها من نتائج الاجتياح البرى لغزة، وفى الجمعية العامة للأمم المتحدة صوتت بعضها يوم الجمعة 27 أكتوبر، مساء بتوقيت القاهرة، باعتماد مشروع القرار الداعى إلى وقف إطلاق النار الذى تقدمت به الأردن، وانضمت إليها فى تقديمه المجموعة العربية ومجموعة أعضاء منظمة التعاون الإسلامى، وامتنع عن التصويت بعضها الآخر. يمكن تفسير التحول البسيط، وإن كان غير الخافى، فى مواقف الدول الغربية بالخشية على سمعتها فى النظام الدولى فتركها الحبل على الغارب لإسرائيل نقيض لكل مفردات خطابها عن احترام القانون الدولى عموما، بما فى ذلك القانون الدولى الإنسانى. الأغلبية التى بلغت المائة والعشرين دولة، وامتناع 45 دولة عن التصويت، فى مقابل أربع عشرة دولة فقط صوتت ضده، منها الولايات المتحدة وإسرائيل طبعا وأربع دول فقط من أعضاء الاتحاد الأوروبى، تبين أين يقف المجتمع الدولى من سلوك إسرائيل، ومن الوضع الذى يجد الشعب الفلسطينى نفسه فيه. فى تعليلهما للتصويت على القرار، نوه ممثل فرنسا الذى صوت لصالحه، وممثلة هولندا التى امتنعت عن التصويت، بضرورة تسوية النزاع بين الشعب الفلسطينى وإسرائيل على أساس حل الدولتين، بل إن الرئيس الأمريكى نفسه تحدث عن هذا الحل أكثر من مرة فى الأسبوعين الأخيرين.
فى نفس وقت اعتماد القرار كانت إسرائيل تدخل شمال غزة وشرقها ضاربة به عرض الحائط، ومتجاهلة لمن حاولوا نصحها. إسرائيل، وعلى ما يبدو، تريد بالعنف غير المحدود الذى تمارسه أن تعيد الاعتبار لنظريتها للأمن التى تشققت يوم السابع من أكتوبر. على أصدقاء إسرائيل، فى الولايات المتحدة وحليفاتها الغربية، أن يدركوا وأن يجعلوا إسرائيل تدرك أن التشقق لا رجعة فيه، وأن السبب فى التشقق ليس فى نقص الاحتياطات أو فى غفلة هنا أو هناك. السبب هو أنه لا يوجد أمن كامل تام فى أى ظرف من الظروف، فليس فى الحياة أى شىء مطلق. الأمن الذى تنشده إسرائيل لمواطنيها ولها لا يتحقق إلا باعترافها بحقوق الشعب الفلسطينى وبالتوازن فى المصالح بينها وبينه. وعلى الولايات المتحدة تحديدا أن تدرك أن أمن إسرائيل لن يتحقق بأن تجعلها مفرطة القوة مقارنة بمجمل الفلسطينيين والعرب فليس فى هذا التوزيع للقوة أى حافز لها على القبول بالحلول الوسط الضرورية للسلام.
ليس معروفا مدى الاجتياح الإسرائيلى لغزة ولا نتائجه. وحتى وإن كان أعضاء المجتمعين الإقليمى والدولى الفاعلين قد صاروا أكثر اقتناعا بأنه لا يمكن تجاهل القضية الفلسطينية ولا تأجيل تسويتها، فإنه لا ينبغى القفز إلى هذه التسوية، بل يجب التحضير لها. قرار الجمعية العامة ليس إلا توصية غير ملزمة، إلا أن له وزنا معنويا لا ينكر وهو يعبر عن الرأى العام العالمى. لعل ممثلى الدول العربية والشعب الفلسطينى يبنون عليه ويواصلون تعبئة الرأى العام العالمى من أجل إنشاء البيئة العالمية المواتية لتسوية عادلة ومستدامة للقضية الفلسطينية. يمكنهم التوجه إلى المنظمات الدولية الإقليمية ودون الإقليمية التى تضمهم، مثل منظمة التعاون الإسلامى، والاتحاد الإفريقى، ومنظمة الكوميسا حتى تصدر قرارات لا تنص فقط على وقف إطلاق النار المنصب على غزة فى الوقت الحالى، بل وعلى ضرورة الشروع فى التسوية العادلة والمستدامة المنشودة. ثم يمكن للدول العربية أن تعمل مع الدول الصديقة لها على إصدار قرارت شبيهة فى المنظمات الإقليمية ودون الإقليمية التى لا تضمها أو تتمتع بكامل العضوية فيها مثل منظمة شنجهاى للتعاون، ومركوسور، ومنظمة التعاون من أجل التنمية فى الجنوب الإفريقى، والجماعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا، وجمعية دول جنوب شرق آسيا. ويا حبذا لو عملت الأطراف المدنية العربية على تعبئة المجتمع المدنى العالمى من أجل نفس هدف العدالة التى يستحقها الشعب الفلسطينى.
الرأى العالمى يمكن أن يكون حاسما فى بلوغ هدف العدالة هذا، وفى تحقيق السلام الضرورى لكل دول المنطقة وشعوبها.