نسيج الدولة العربية هو المشكلة

علي محمد فخرو
علي محمد فخرو

آخر تحديث: الخميس 28 نوفمبر 2013 - 8:42 ص بتوقيت القاهرة

أثبتت الثلاث سنوات الماضية من عمر ثورات وحراكات الربيع العربى، ومن قبلها حقب قرون تاريخ العرب، أن مشكلة المشاكل كلها هى الدولة العربية: أسس قيامها، شرعية ونظام حكمها، نوع وعلاقات مؤسسات إدارتها، مقدار التوازن بين مجتمعاتها وبين سلطات حكمها.

بسبب وجود نواقص فى كل تلك الجوانب من تركيبة الدولة العربية أصبحت دولة تستعصى على الإصلاح التدريجى المعقول وتتخبَّط فى التعامل مع انفجار الثورات أو الحراكات الكبرى فى بداياتها، وبالتالى تصَّر على إيقاف وتجميد الزمن لتصل فى النهاية إلى الفوضى والانقسامات المفجعة وإمكانيات التَّلاشى كدولة.

 

أساس الإشكال يكمن أولا فى أن فى بلاد العرب لدينا سلطات وليس لدينا دول بالمعنى المتعارف عليه. وهى سلطات تتمثَّل فى أشكال كثيرة. فقد تكون سلطة عسكرية أو تكون أقلية مذهبية طائفية أو تكون قبلية متنفذة أو تكون حزبا قائدا طليعيا مهيمنا على كل ما عداه.

لقد تميّز تاريخ تلك السلطات، فى أى شكل تمظهرت، بابتلاعها للدولة، بخيراتها المادية والمعنوية، وباستغلالها أبشع الاستغلال وبنهبها بصورة منهجية لا رحمة فيها. ثم قامت هذه الدولة، المسروقة الفاسدة، من خلال ممارسة الاستبداد بابتلاع مجتمعها بحيث لم يعد للمجتمع وجود فاعل قادر على مراقبة ومساءلة ممارسات وخطايا سلطات الدولة التى هى فى الغالب لديها مشاكل مع شرعيتها غير الديمقراطية.

مثل هكذا سلطات ما كان يمكن إلا أن تبنى دولة تسلطية تمارس الاستبداد التاريخى القديم ولكن بوسائل بيروقراطية عصرية من خلال تدخُّل وهيمنة سلطات الدولة على السياسة والاقتصاد والإعلام والثقافة، وبالتالى تجعل مجتمعاتها مجتمعات تابعة ضعيفة وذليلة لا حول لها ولا قوة.

الدولة العربية الحديثة إذن لا يمكن وصفها بالدولة المدنية، ذلك أن الدولة المدنية هى دولة الشعب الذى يسكنها، دولة المواطنين المتساوين فى الحقوق والواجبات، المتساوين أمام قانون غير تمييزى عادل. وهى بالتالى دولة غير ديمقراطية، لا سياسيا ولا اقتصاديا ولا اجتماعيا.

على ضوء تلك الخلفية للدولة العربية الحديثة، حيث تختصر الدولة فى سلطة ويضمر المجتمع حتى التلاشى فى الوجود الفاعل الحقيقى، يستطيع الإنسان أن يفهم ظاهرة تأرجح الحياة السياسية فى الدولة العربية فى الشكل والصورة، ولكن دائما داخل إطار التسلط والاستبداد الذى لا يختفى قط.

 

من هنا نستطيع أن نشخص تاريخ هذه الدولة العربية الحديثة أو تلك، ولا تهمُ الأسماء. إنه عبارة عن تاريخ تأرجح من دولة تسلطية، بوسائل برلمانية ليبرالية مظهرية مزيَّفة، إلى تسلطية عسكرية، بشعارات قومية أو اشتراكية، إلى تسلطية، بخليط من القبضة الأمنية الحديدية وليبرالية برلمانية شكلية يسيطر عليها الحزب الواحد، إلى تسلطية دينية، بشعارات إسلامية لتغطية انتهازية سياسية. وهذا التأرجح العبثى السطحى بين هذه الصور التسلطية يظلُّ يدور حول نفسه فى حلقة مفرغة لا تخرج، كما ذكرنا، عن إطار النظام السياسى المستبد الفاسد.

والملاحظ أن هذا التأرجح يعتمد فى الأساس على مبدأ الترضيات الفئوية، أحيانا ترضية العمال والفلاحين وأحيانا ترضية رجال الثروات والمال وأحيانا ترضية أتباع مذهب أو قبيلة وأحيانا بالطبع ترضية لقوى الخارج.

فى جميع الأحوال تثبت الأيام أن الصورة الجديدة للحكم ليست أكثر من علاج مؤقت لا يلبث أن يفشل بسبب زيف الدواء أو بلادة الطبيب أو استمرار تفاقم المرض.

تلك الصور المتبدلة فى مظهر الحكم فى الدول العربية، من أقصى المشرق إلى أقصى المغرب، جسَد بأفضل الصور، ويا لسخرية القدر، قولا شهيرا لطاغية من طغاة القرن العشرين، جوزيف ستالين، الذى ينسب ّإليه قوله «بأن الدولة هى أداة فى أيادى طبقة الحكم، تستعملها لكسر مقاومة كل أعداء طبقتها». والعدو فى الحالة العربية هو جموع الشعب، وهى تحاول أن يكون لها وجود وصوت وفعل فى دولتها.

 

علاج داء الدولة العربية ذلك، المعقَد المتجَّذر فى التاريخ والحاضر، لن يكون تواجد البطل الكاريزمى الذى يأتى ولا يأتى فى مسرح حياة العرب، ولا الجيش الوطنى المتحكم فى الحياة المدنية الذى اصبح ما فى هذا البلد إلا هذا الولد، ولا المباركة الخارجية المتقلّبة فى الأهواء التى تحجّ إليها الركبان، ولا الاكتفاء بالحديث عن الشعارات القيمية الأخلاقية الإسلامية على أهميتها، ولا بالسقوط المعيب تحت أجنحة العولمة وإملاءاتها التى بعضها كارثى.

علاج الدّاء ذاك أعقد من كل ذلك بكثير، وسنحاول مستقبلا أن نتلمَّس بعضا من جوانبه.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved