اقتصاديات لقاح الكورونا بين العلم والسياسة والعدالة

محمد الهوارى
محمد الهوارى

آخر تحديث: السبت 28 نوفمبر 2020 - 7:30 م بتوقيت القاهرة

أتحسس خطواتى عندما أتناول موضوعا خارج ما أفهمه أو ما أشعر به. ولكن فيروس الكورونا جعلنا جميعا نضطر للقراءة والدراسة ومحاولة فهم هذا المرض اللعين الذى قلب العالم رأسا على عقب. أما الآن وقد تبدت لنا بوادر نهاية هذه الفترة العصيبة فنجدنا فى عالم الاستثمار نجتهد لنفهم الجدول الزمنى المتوقع للقاح الكورونا لما يمثله ذلك من تأثيرات حيوية ليس فقط على مجال الاستثمار ولكن على كل مناحى الحياة. ولكى نفهم الجدول الزمنى، يجب أن نستوعب العوامل المؤثرة على تطوير اللقاح وانتاجه.
يمثل لقاح الكورونا إعجازا علميا للبشرية على عدة أصعدة. أولا مدة تطويره هى الأقصر فى التاريخ، فالفترة الزمنية التى استلزمها إنتاج لقاح ذى فاعلية عالية هى نحو ٣٠٠ يوم. معجزة بكل المقاييس ساعد عليها حجم الدمار الذى تسبب فيه المرض فأصبح الشغل الشاغل للبشرية جمعاء وركزت كبرى الشركات العالمية والحكومات كل جهودها ومواردها لإيجاد حل لهذا المرض. فى سلسلة أفلام الخيال العلمى الشهيرة ستار تريك Star Trek كانوا يستخدمون لفظ السرعة اللولبية Warp Speed لوصف سرعة سفن الفضاء التى يستخدمونها فى الترحال بين المجرات. واختار الرئيس الأمريكى دونالد ترامب هذا اللفظ لوصف مشروعه لتطوير وإنتاج علاج وكذلك تطوير وإنتاج ٣٠٠ مليون جرعة لقاح قبل يناير ٢٠٢١، وصلت مصاريف المشروع حتى أكتوبر ٢٠٢٠ نحو ١١ مليار دولار أمريكى واعتمد المشروع على تمويل عدد من الشركات التى تعمل على لقاحات يراها العلماء الأمريكيون واعدة وكذلك حجز كميات كبيرة من جرعات هذه اللقاحات حتى يكون للشعب الأمريكى ــ الممول الرئيسى للعملية ــ أولوية فى الحصول على هذه اللقاحات.
للأسف هذا يمثل دورا واضحا للسياسة والملاءة المالية فى عملية كان من المفترض أن تكون علمية وإنسانية فى المقام الأول، ولكن الدول تتنافس على الموارد، ولقاح الكورونا أصبح أهم سلعة فى العالم على الإطلاق. حتى وقت كتابة هذا المقال تم تطوير لقاحين بنسبة فاعلية تتعدى النسبة التى كان يستهدفها العلماء (٧٠% أو ٨٠%). فقد أُعلن أن لقاح شركة مودرنا نسبة فاعليته ٩٠% وأن نسبة فاعلية اللقاح الذى أنتجته شركة فايزر بالتعاون مع شركة «بيو إن تك» الألمانية ٩٥%. الجدير بالذكر أنه بينما قبلت شركة مودرنا أموالا من الحكومة الأمريكية لدعم تطوير اللقاح فقد رفضت شركة فايزر هذا الدعم لأنها رأت أن قبوله سيكون معناه أن عملية تطوير اللقاح ستتحول من عملية علمية إلى عملية سياسية مما سيؤثر على مصداقيته وقيمته العلمية. ولكن ذلك لم يمنع الحكومة الأمريكية من دفع مقدم حجز لكمية كبيرة من لقاح فايزر؛ حيث وجدت أن احتمالات إنجازه سريعا مرتفعة، يزيد من أولويته للحكومة الأمريكية أن تصنيعه، على الأقل فى البداية، سيكون معظمه داخل الولايات المتحدة نفسها؛ وهو ما ينطبق على لقاح شركة مودرنا أيضا.
المعجزة الثانية فى لقاحى كورونا اللائى تم الإعلان عنهما أنه ولأول مرة فى التاريخ يتم إنتاج لقاح على مستوى تجارى لا يستخدم التوليفة المعتادة التى تعتمد على نسخة ضعيفة أو غير مفعلة للفيروس لتفعيل الوقاية. فاللقاحان يستخدمان ولأول مرة تعليمات جينية عن طريق تقنية Messenger RNA المعروفة اختصارا mRNA. وهذا الاختلاف يمثل علامة فارقة فى التاريخ العلمى والطبى على عدة أصعدة منها أن تحمل كبار السن وأصحاب أمراض المناعة للمصل أفضل بكثير من الأمصال المعتادة وقد يكون ذلك سببا رئيسيا وراء ارتفاع نسبة نجاح اللقاحين. يؤكد العلماء أن أسلوب تطوير أى مصل يجعله على نسبة عالية من الأمان وإن كانت هناك شكوك فيه فستكون من ناحية الفاعلية. ولكن من المتوقع أن يتسبب الأسلوب الحديث المستخدم فى تطوير المصلين الجديدين فى وجود بعض المقاومة بسبب مخاوف تغيير التركيب الجينى الإنسانى وهو ما يتماشى مع ماكينة الشائعات ونظريات المؤامرة التى تعمل بلا كلل منذ بداية الوباء.
بغض النظر عن التفاصيل، أتوقع أنه سيتم بدء توزيع الأمصال بصفة عاجلة خلال أسابيع قليلة على الذين يعملون فى الخطوط الأمامية من أطباء وممرضين وخلافه. وفى غياب أى أعراض عاجلة سيسارع الأغلبية لمحاولة الحصول على مصل حتى يتمكنون من مواصلة حياتهم بشكل طبيعى. وستتبقى النقطة الفارقة، وفى رأيى هى النقطة الأهم التى ستستحوذ على انتباه العالم لشهور أو حتى سنوات، وهى أسلوب التوزيع وعدالته. أتوقع أن توزيع مصل الكورونا سيكون من أكثر أحداث هذا القرن تسييسا وستكون كل أحداثه محط أنظار واهتمام وكلام العالم لسنوات قادمة وإن حدث ما أخشاه من كوارث إنسانية فى بعض البلاد بسبب تأخر المصل فسيظل ذلك عبئا على ضمير العالم لعقود.
يحكم توزيع الأمصال أربعة عوامل هامة: أولا سيكون لموقع الإنتاج عامل كبير فى التوزيع الجغرافى. فإذا تم الإنتاج فى دولة ولم تحصل على نصيب وافٍ من المصل فمن الممكن أن تعلن أحكاما عرفية وتمنع تصديره تماما حتى تستكمل تطعيم جميع مواطنيها. جدير بالذكر أن الهند بسبب موقعها كمنتج رئيسى للأمصال فى العالم أصبحت فى المركز الأول من حيث عدد الأمصال المشتراة عالميا وقد تتعداها الولايات المتحدة وأوروبا فى حالة نجاح الأمصال الأخرى التى قاموا بحجزها. ثانيا، كما ذكرنا، هناك دول عديدة قامت بحجز مجموعة كبيرة من الجرعات من شركات مختلفة مما يعنى أن الدول الأكثر فقرا ستكون أكثر عرضة لاستمرار فتك المرض. وبالفعل تتوقع شركات أبحاث متعددة أن تستكمل الدول المتقدمة تطعيم مواطنيها فى النصف الأول من العام القادم تاركة الدول الأكثر فقرا فى عزلتها. هذه العزلة كما رأينا لا تؤثر فقط على الحالة الصحية للشعوب ولكن أيضا على أحوالهم الاقتصادية والمعيشية. ثالثا أغلب هذه الأمصال ستتطلب استعدادات لوجيستية غير متوفرة بسهولة فلقاح فايزر مثلا يحتاج لنقله درجة حرارة ٧٠ ــ مئوية أى فى عبوات مخصوصة جدا ومرتفعة التكلفة. رابعا إمكانيات الإنتاج المتوفرة عالميا فى أفضل أحوالها تستلزم أكثر من عامين لتوزيع لقاحات لجميع مواطنى العالم أو على الأقل لتصل للنسبة الحرجة التى تسمح بإنهاء خطر المرض.
يتبقى أن نسأل ماذا نحتاج لدعم موقف مصر فى الحصول على اللقاح؟ أولا هناك جهود محمودة جدا من وزارة الصحة لتنسيق الجهود مع روسيا والصين لاختبار وإنتاج اللقاحات التى قاموا بتطويرها. شركة «بيو إن تك» الألمانية التى طورت التكنولوجيا المستخدمة فى لقاح فايزر قامت فى نفس الوقت بتفعيل اتفاق تعاون مع شركة فوسون الصينية فمن الوارد جدا أن يكون اللقاح الصينى له نفس القدرة على منع المرض. ثانيا قامت الحكومة بحجز كميات من شركات مختلفة وذلك لزيادة فرص وجود مصل فعال عند توافره. أخيرا على الحكومة الاهتمام بالتواصل مع مبادرة كوفاكس Covax لعدالة توزيع الأمصال وهى المبادرة التى تقودها منظمة الصحة العالمية لشراء مجموعة كبيرة من الأمصال وتوزيعها بعدالة على دول العالم المختلفة بغض النظر عن وضعهم الاقتصادى. قامت المبادرة بجمع مليارى دولار هذا العام وتستهدف جمع خمسة مليارات دولار العام القادم مما يضعها فى موقع أن تصبح من أكبر جهات توزيع الأمصال فى العالم. المبادرة حاليا هى رابع أكبر مستحوذ على الأمصال فى العالم وعلينا أن نتأكد أننا سنحصل على الدعم المطلوب منها لمساعدتنا على تعدى هذه المحنة فى أسرع وقت. حفظ الله مصر وحفظ شعبها.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved