الطبيعة خير معلم

محمد زهران
محمد زهران

آخر تحديث: السبت 28 نوفمبر 2020 - 7:20 م بتوقيت القاهرة

من المؤسف أن أقول أن الإنسان لا يخلق أفكاراً جديدة، الإنسان يركب الأفكار مع بعضها ويغير في البعض الآخر وهكذا. أي باحث كي يحل مشكلة بحثية يجب أن يقرأ أبحاث السابقين ومحاولاتهم ويحاول إيجاد حل أفضل. هذا ينطبق على كل الأفكار في كل المجالات من الأفكار الفلسفية المجردة وحتى الأفكار التكنولوجية التطبيقية. موقع مثل أمازون الشهير لم يكن ليظهر في أربعينات القرن الماضي مثلاً لأنه كي يظهر للوجود يجب أن توجد أجهزة كمبيوتر ويجب أن تتصل ببعضها بشبكة مثل الانترنت الآن ويجب أن تتطور البرمجيات لتكون سهلة الاستخدام، عندئذ فقط تظهر فكرة التسوق الالكتروني مثل أمازون وغيرها.

إذا الأفكار تنبت من أفكار سبقتها والأفكار السابقة نبتت من أفكار أسبق وهكذا حتى نصل إلى أفكار بسيطة زرعت فينا بالفطرة. من هذه الأفكار البدائية بدأ الإنسان يتعلم بالمشاهدة ثم التفكير المنطقي والتجربة إلخ ووصل إلى أفكار أكثر تعقيداً ومنها إلى أفكار أكثر وأكثر تعقيداً وهكذا تتطور العلوم بجميع أنواعها و تتقدم التكنولوجيات. أي أننا في عالم تتصارع فيه الأفكار وتتزاوج وتتوالد وتموت أيضاً. لكن من أين يستقي الإنسان أفكاره وما هي أدواته للوصول إلى أفكار جديدة؟

الطبيعة حولنا هي من أهم معلمي الإنسان وسنعطي اليوم بعض الأمثلة على ما تعلمه الإنسان من الطبيعة في مجال علوم الكمبيوتر.

عندما نريد برمجة الكمبيوتر لحل مشكلة ما فإن الكمبيوتر يبحث عن حل ثم يقيمه وإذا كان تقييمه سيئاً بحث عن حل آخر وهكذا. إذا تخيلنا أن كل حل هو كائن حي فإن تزاوج حلين ينتج حلاً ثالثاً فيه من صفات الحلين السابقين مثل التزاوج في الكائنات الحية. إذا تخيلنا مثلا مائة حل وحدث تزاوج بين كل حلين فسنحصل على خمسين حلاً جديداً بالإضافة إلى المائة الأصلين وبذلك يصبح عندنا مائة وخمسين حلاً. إذا تخلينا عن أسوأ خمسين حلاً وبدأنا دورة أخرى من التزاوج بين المائة الأفضل سنحصل على خمسين حلاً آخرين. سنظل في تلك الدورات التزاوجية حتى نحصل على أفضل الحلول. تعلمنا ذلك من التزاوج والجينات في الكائنات الحية وتسمى تلك البرمجيات بالخوارزميات الجينية (genetic algorithms).

إذا نظرنا إلى حشرة مثل النمل أو النحل وكيف أنه يعمل بروح الفريق لآداء مهمات مستحيلة على حشرة واحدة فسنتعلم كيف نجعل مجموعة من الروبوتات تتعاون فيما بينها لإنجاز مهمة معينة أو كيف تتعاون مجموعة من الرمجيات الصغيرة معاً لحل مشكلة كبيرة. تسمى هذه النوعية من البرمجيات ذكاء السرب (swarm intelligence).

إذا نظرنا إلى المخ البشري وما نعلمه عنه حتى الآن (لأننا لازلنا لا نعلم الكثير عنه) لوجدناه يتكون من خلايا عصبية بسيطة تتصل فيما بينها بشبكة عصبية بالغة التعقيد، ومن هنا استلهم علماء الكمبيوتر البرمجيات الشبيهة بالشبكات العصبية (Neural Networks) والتي أصبحت نواة أغلب برمجيات الذكاء الاصطناعي الحالي.

هناك الكثير من الأمثلة عن كيفية تعلم الانسان عن الطبيعة وتعلمه من الطبيعة والأفكار كلها تتخلق من بعضها البعض كما قلنا. المعلم الأول هو الطبيعة والمعلم الثاني هو الخطأ. التجربة والخطأ والتعلم من هذا الخطأ هو خير معلم والتشجيع على الخطأ والتعلم منه من أنجح وسائل التربية والتعليم. هناك كتاب مثير نشر سنة 2012 بعنوان "الجهل وكيف يقود العلم" أو (Ignorance: How It Drives Science) ومؤلفه ستيوار فايرشتين أستاذ البيولوجية العصبية بجامعة كولومبيا هو يناقش أن الجهل هو قاطرة العلم ويشرح كيفية استخدام العلماء للجهل لاستلهام أفكار مثيرة قد تقود إلى إكتشاف علمي كبير ويعطي أمثلة كثيرة من تاريخ العلم عن ذلك (تذكر ما قلناه في مقال سابق عن أهمية قراءة تاريخ العلوم)، نفس المؤلف أتبع كتابه هذا بكتاب آخر بعنوان "الفشل: لماذا العلم ناجح" أو (Failure: Why Science Is So Successful) وهو الخطوة الثانية بعد كتابه الأول عن الجهل. الجهل يقود إلى الأفكار لكن التجربة والخطأ (أي الفشل) هي الطريق نحو العلم الصحيح.

أهم نقطة نخرج بها من هذا المقال أنه كلما زادت وتنوعت قراءاتك كلما امتلكت المادة الخام لتوليد الأفكار، وكلما تدربت وحسنت طرق تفكيرك النقدي والمنطقي ودربت نفسك على كيفية تقبل الفشل والتعلم منه كلما طورت من أدواتك لتوليد الأفكار. مع امتلاكك المادة الخام ووسائل التصنيع لن تحتاج بعد ذلك غيرالمجهود.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved