عمال حديد وصلب مصر فى مواجهة العولمة والخصخصة والتبعية
محمود الخفيف
آخر تحديث:
السبت 28 ديسمبر 2013 - 9:32 ص
بتوقيت القاهرة
فى العقود الأربعة الأخيرة كانت ومازالت الليبرالية الجديدة هى الأساس لكل سياسات الاقتصاد والتمويل والأمولة (financialization) وحركة رءوس الأموال والتجارة والتى عمل على تطبيقها توافق واشنطن (صندوق النقد الدولى والبنك الدولى ووزارة الخزانة الأمريكية) فى العالم اجمع: من الدول الرأسمالية الغنية إلى الدول النامية والتى هى فقيرة وتابعة للدول الغنية (بما فى ذلك مصر)، وهى تلك الليبرالية التى رسخت لما يعرف بالعولمة وكل تداعياتها التى نعيشها الآن من ثورات تطالب بعدالة اجتماعية فى الوطن العربى وأزمات اقتصادية حادة فى الغرب الأمريكى والأوروبى. وعادة ما توصف هذه الليبرالية بأنها «متوحشة»، وهو مصطلح يحمل مضمونا إنسانيا وأخلاقيا، وهو بالفعل توصيف صحيح، ولكنه ايضا يعنى «ليبرالية» غير مروضة وبلا قيود.
وفى إطار تلك الليبرالية وهذا التوحش توجد أدبيات ما أُطلق عليه «الخصخصة»، والتى تدعى أن الخصخصة ضرورة، لأن القطاع الخاص أكثر كفاءة، من القطاع العام، فى استغلال وإدارة الموارد والمصانع والمشاريع العامة. ولكن الشواهد لا تؤيد هذا الادعاء، بل على العكس تشير إلى ان الهدف الأبعد لهذه العملية هو خصخصة موارد وممتلكات الشعوب الفقيرة ونقلها، بأبخس الأثمان، من خلال العولمة والتبعية والسوق المفتوحة إلى رأسماليى العالم وأغنى أغنيائه، مما يؤدى فى نهاية المطاف إلى تقوية الزخم المحافظ على استمرار وتعميق تبعية الدول النامية للدول الرأسمالية فى الغرب، وبالتالى يؤدى لزيادة ثروة الأغنياء ولمزيد من إفقار الفقراء وإبقاء الدول النامية فى مستنقع التخلف.
ومن باب الكلام النظرى تعترف أدبيات الليبرالية الجديدة بإمكانية استثناء بعض الصناعات والموارد الاستراتيجية من عملية الخصخصة فى الدول النامية. وهى تلك الصناعات ذات العائد الاجتماعى العالى، وذات الأهمية الاستراتيجية القومية والأمنية والسياسية، أو تلك الصناعات الضرورية للنمو المستقبلى ولبناء بنية تحتية صناعية تساعد على قيام صناعات أخرى لتعزيز النمو المستدام وتماسك النسيج الاجتماعى وتقليل حدة الفقر. وعادة ما يعزف القطاع الخاص عن الاستثمار فى تلك الصناعات حيث ان عوائدها وأرباحها غير سريعة ومخاطر الاستثمار فيها عالية. أمثلة لتلك الصناعات الاستراتيجية فى مصر تأتى صناعة الحديد والصلب وصناعات الالومنيوم والنحاس والطاقة وكذلك تأتى مشروعات قومية مثل السد العالى وقناة السويس.
ولكن المثير للعجب هو ما يدور الآن فى مصر عن مصنع الحديد والصلب فى حلوان والحوار الدائر فى الإعلام عن مستقبله وعن إمكانية خصخصته، كما لو كان الكلام عن مجرد شركة تخسر (أو بمعنى اصح تُخَسّر) ولكن بمحض المصادفة كانت هذه الشركة هى شركة الحديد والصلب، وكما لو كانت معملا صغيرا لصناعة الأساتِك المطاطية التى يصنع منها الأطفال نبالا يلعبون بها. ولا احد يذكر الأهمية الاستراتيجية لشركة الحديد والصلب والتى تستطيع (ويجب ان تستطيع) صناعة خامات من الصلب لن يستطيع «حديد عز»، وأمثاله فى القطاع الخاص، على صناعتها وقد لا يمكن استيرادها من الخارج لأسباب لها علاقة بالرؤى الاستراتيجية للدول المصدرة لهذه الخامات. وقد يبدو لمتابع الإعلام فى مصر ان سبب أزمة الحديد والصلب هو جشع عمال فى شركة عادية أو أقل من عادية، ان هذا الاستخفاف فى التعامل مع أزمة صرح صناعة الحديد والصلب فى مصر يبدو كما لو كان عملية تحضيرية للتقليل من حساسية الرأى العام ضد المواصلة الصريحة وغير الخجولة لسياسات الليبرالية المتوحشة التى اتبعها نظام مبارك فى الثلاثة عقود الماضية، ويبدو تحضيرا لمتابعة فجة لعملية الخصخصة التى راح ضحيتها أكثر من ثلاثمائة شركة قطاع عام، ولكن هذه المرة خصخصة الصرح الاستراتيجى للصناعة المصرية، والذى لم يجرؤ حتى نظام مبارك على الإفصاح عن نيته فى هذا الصدد.
ولكن ما شرع فيه نظام مبارك هو خلق مبررات تصفية وخصخصة هذه الشركة من خلال تقليل فرص ربحها وزيادة فرص خسارتها عن طريق عدم توفير أو رفع سعر فحم الكوك (وهو من أهم مستلزمات إنتاج الحديد والصلب). وتم ذلك بجعل كل من شركة الحديد والصلب وشركة فحم الكوك شركتين منفصلتين تماما فى إطار شركة قابضة، بحيث تخضع كل شركة على حدة لمبدأ الربح والخسارة، وإذا خسرت الشركة تصبح عبئا على الدولة ويكون هناك مبرر لبيعها بثمن قد يكون أقل من قيمة أصول وأراضى الشركة. وبالطبع فى ظل جو من الفساد فلن توفر شركة الكوك الفحم لشركة الحديد والصلب بل ستوفره لشركات القطاع الخاص مثل «حديد عز» والتى عليها قضايا احتكار فى المحاكم المصرية. ومع نقص فحم الكوك لن تستطيع شركة الحديد والصلب ان تعمل بكامل طاقتها وستخسر ويتم تسريح عمالها ثم تباع بأبخس الأثمان ويضيع على مصر وشعبها تراكمات وجهود سنوات بُذِلَت لبناء مثل هذه الصرح.
وعلى نفس القدر من التعجب والدهشة هناك أمر يستحق كل الإعجاب والتقدير، ذلك هو موقف عمال شركة الحديد والصلب الواعى وغير الانتهازى. ان هذا الموقف لا ينبع فقط من الدفاع عن حقوقهم كعمال منتجين وتواقين لرفع مستوى إنتاجهم وإنتاجيتهم، ولكنه أيضا نابع من إدراكهم للآلية الموضوعة (من خلال الشركة القابضة) لخصخصة هذه الصناعة ومن فهمهم الفطرى للدور الاستراتيجى لهذه الشركة واللازم لأى تنمية صناعية فى المستقبل وضرورة تطويرها بدلا من تصفيتها. ان هذا الفهم والإدراك رفع من مطالب عمال الحديد والصلب من مجرد مطالب عمالية إلى مطالب تمثل حلولا بديلة لمنظومة الشركة القابضة، ومطالب لها علاقة بالمحافظة على الشركة وباستراتيجية مصر الصناعية.
يبدو ان الليبرالية الجديدة مازالت تسيطر على عقول صانعى القرار ومن يتولى الامور فى مصر، ومازالت قوية بمجموعات المصالح التى خلقتها فى الاربعين سنة الماضية، ومازالت تعمق من تبعية مصر، ومازالت تواجه وبتوحش ليس فقط عمال حديد وصلب مصر وفقرائها، بل مستقبل مصر الصناعى ودورها الاستراتيجى. ولكن الأكيد ان هناك بديلا واضحا لهذا التوحش، ولكن هل هناك الارادة؟
هذا المقال يعكس رؤية الكاتب وليس بالضرورة رؤية المؤسسة التى يعمل بها.