حكاية مع صديق من لبنان

جميل مطر
جميل مطر

آخر تحديث: الأربعاء 28 ديسمبر 2016 - 2:00 م بتوقيت القاهرة

كنت فى أولى درجات السلم الوظيفى ولم يكن قد مر على وجودى فى الهند أيام معدودة حين كلفنى أول سفير أعمل معه بتمثيله فى افتتاح الموسم الثقافى الجديد لمركز دراسات العلاقات الدولية. توجهت بسيارة أجرة إلى سابرو هاوس حيث مقر المركز. وجدت فى استقبالى كبار المسئولين عن المركز وممثل عن وزير الخارجية. لم يغب عنى أن أنبه المستقبلين إلى أننى الملحق السياسى بالسفارة أى احتل الرتبة الأدنى فيها، وأننى حديث العهد بالعاصمة الهندية ومؤسساتها. فوجئت عند الجلوس بأن تنبيهى لم يؤثر فى موقعى بين الحضور إذ جلس إلى جانبى من ناحية نائب وزير الخارجية وجلس على الناحية الأخرى المحاضر الذى سارع بتعريفى بنفسه وأبدى سعادة حقيقية بحضورى ممثلا للسفارة باعتبار أن المحاضرة كما جاء فى الإعلان عنها ستناقش دور الحياد الإيجابى فى تحقيق السلام العالمى. بعد كلمة تقديم قصيرة من مدير المركز نهض المحاضر واتجه إلى المنصة ليلقى المحاضرة خلفت علامات لا أنكرها في مسيرتي الدبلوماسية والأكاديمية.

***


يومها وفى أول مؤتمر أحضره خارج مصر تلقيت الدرس الأول فى الخطابة، تعلمت كيف أبدأ وكيف تكون وقفتى ومتى أخفض الصوت وأرفعه ومتى يأتى الحزم والحسم وأين يزج بالفكاهة. يومها استمتعت منبهرا بأروع إلقاء من رجل تأكدت فى سنوات لاحقة أنه واحد من أحسن من كتبوا وتحدثوا الإنجليزية ولغات أخرى. يومها كانت بداية علاقتى بكلوفيس مقصود باحث الدكتوراه اللبنانى الأمريكى، علاقة امتدت عمرا وتمددت فى مدن عديدة. عشنا معا طويلا فى نيودلهى والقاهرة وبيروت، وتعددت لقاءاتنا فى واشنطن ونيويورك وباريس ودبى والشارقة ودمشق وعمان والكويت. لم تغب شمس هذا اليوم إلا وتلقيت درسا من نوع آخر. عدت بعد المحاضرة إلى السفارة أحمل معى انبهارى بالرجل وإعجابى بالمحاضرة وبخاصة ما احتوت عليه يخص السياسة الخارجية المصرية. فاجأنى السفير بسؤالين وإنذار. سألنى عن الشخصيات التى حضرت ثم سألنى عن مواقع جلوسهم والموقع الذى كان مخصصا له ومكان جلوسى. صرفنى بعد أن وجه لى لوما شديدا على أننى جلست فى المكان المخصص له، ثم اكتسى وجهه بالغضب عندما عرف أننى لم أعترض أو أرفض ولم أصر على الجلوس فى المقاعد الخلفية. أنذرنى بعقاب شديد إذا شاركت بعد ذلك اليوم فى مؤتمر آخر فى الهند. لم يسأل عن المحاضرة أو المحاضر.
***


تذكرت كلوفيس فى مطلع هذا الأسبوع وأنا استمع إلى خبر من نيويورك ينقل موقفا غير متوقع من وفد مصر فى مجلس الأمن. دقائق بعد إذاعة الخبر وانهمرت المكالمات من أصدقاء غير مصدقين. لم يكن بينهم عميل أجنبى أو مواطن فاقد الوطنية أو شخص موتور وحاقد. كلهم أسوياء خلقا ومبدأ وعقيدة. بدأوا غير مصدقين وانتهوا غاضبين. أقول تذكرت كلوفيس. كنا، كلوفيس وأنا، نشارك فى مؤتمر منعقد فى فندق يطل على البحر الميت. اجتمعنا لمناقشة الآثار الإقليمية التى نتجت عن اتفاقية الصلح المصرية الإسرائيلية وكان للموقع الذى اختاره المنظمون للمؤتمر دلالته. فالفندق يطل على البحر الميت الذى يطل بدوره على أراضى يحتلها الإسرائيليون فضلا عن أن عددا كبيرا من المشاركين كانوا مثل كثيرين من حكام وشعوب العرب فى ذلك الحين يؤمنون بحق الفلسطينيين فى وطنهم.
***


جلسنا على مائدة مستديرة وكدنا ننتهى من تناول العشاء عندما خطر لى أن اهمس فى أذن كلوفيس أساله عن الموضوع الذى اختاره لمحاضرته التى سوف ينهى بها المؤتمر أعماله. جلس معنا على المائدة وزير مرموق فى الحكومة وعين من أقدر وأهم شخصيات مجلس الأعيان. أجاب هامسا همس الخطباء وضعيفى السمع ليسمعه كل رفاق المائدة، قال إنه سوف يفضح كل الحكومات العربية ويحملها مسئولية الخراب القادم على المنطقة بأسرها لسكوتها على ما تفعله إسرائيل. لن يعفى أحدا من الهجوم ولكنه سوف يشيد بالأردن الذى ما يزال يقاوم ضغوطا ثقيلة. بدأ يجمع حاجياته ليتوجه ناحية المنصة عندما اقترب منه شخص لا نعرفه وأسر فى أذنه بكلمات لم نسمعها وانصرف. التفت كلوفيس ناحيتى وقال: «أبلغونى أن الأردن وإسرائيل وقعتا للتو اتفاقية صلح» وأن الخبر سوف يذاع خلال وقت قصير. نهض مضيفنا مدير الندوة ليصطحب المحاضر الذى وقف بدوره وهو يبتسم لى ابتسامة من لا يصدق حجم المأزق الذى وضع فيه.

***


كنت خارج مصر عندما طلب الأستاذ هيكل من كلوفيس الانتقال من بيروت إلى القاهرة والانضمام إلى كوكبة كتاب صحيفة الأهرام. كان يكتب عموده من شقة فى الزمالك تطل على النيل ويسهر الليل فى مقهى نايت آند داى بفندق سميراميس فى صحبة مجموعة من أحسن رجال ونساء الفكر السياسى فى مصر. ذات صباح وبينما كان قريبا من مدخل الأهرام يستعد لدفع أجرة التاكسى شعر بحركة خلفه فاستدار ليرى هيكل مادا يده إليه تجره نحو سيارته. ذكر لى كلوفيس أنه احتج بأن لديه ما يفعله بينما أصر هيكل على أنه يريد أن يسمع رأيه فى قضية تحيره. توقف هيكل عن الحديث ولم يتوقف كلوفيس إلا حين وجد نفسه يصعد سلم طائرة عسكرية فسأل إلى أين ولماذا وما دوره وكيف وهو لا يحمل ملابس إضافية. جاءته الإجابة قصيرة وشافيه أن هى إلا ساعات يزوران فيها صنعاء ويعودان على نفس الطائرة. وصلا العاصمة اليمنية ليتفاجأ بأن الطيار مجبر لأسباب عسكرية على المبيت فى العاصمة اليمنية ولن يتمكن من الطيران مجددا قبل صباح اليوم التالى. يقول كلوفيس أنه طلب من سائق السيارة التى تنقلهما إلى قصر الضيافه أن يصطحبه بعد نزول هيكل من السيارة إلى السوق ليشترى ملابس داخلية. حذره السائق من أن ساعة مضغ القوت قد حلت وانقضت ولن يجد صاحب دكان مستعدا لخدمة زبون. أصر كلوفيس.
***


يستطرد كلوفيس: «توقفنا، بعد مشى طويل، أمام دكان أسدل صاحبه شراعته حتى أكثر من ثلثيها ورقد هو نفسه متمددا على دكته الخشبية وعلى وجهه قسمات ونظرات من تمكن منه القات. حاول كلوفيس التعبير بلغات شتى عن حاجته إلى طاقم غيار داخلى. لم تجد المحاولة بالكلمات فلجأ إلى الإشارة فلم تنفع فى البداية. راح يكررها مستزيدا حتى أنه لجأ إلى فك أزرار بدلته وقميصه ليكشف عن طاقم الغيار الذى يلبسه والذى يريد مثيلا له. عندئذ انتفض صاحب الدكان صارخا فى وجهه «إن كان هذا ما تريد فليكن، انحنى وادخل». عشت سنوات اتخيل منظر كلوفيس الرجل الوقور وهو يركض فى الشارع الضيق ككل شوارع الأسواق القديمة فى صنعاء يلملم أطراف بذلته ويعيد عقد ربطة العنق من فوق قميص مفكك الأزرار.
***


لم أقابل فى حياتى شخصا استطاع أن يجمع بين رجاحة العقل وبساطة السلوك مثلما فعل كلوفيس مقصود، ولم أعرف اثنين استطاعا أن يحصنا صداقتهما ويحميانها من شرور الزمن والناس على امتداد نحو ستين عاما مثلما فعلنا نحن الاثنين، كلوفيس وأنا.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved