أن أتهادى مع التيار

تمارا الرفاعي
تمارا الرفاعي

آخر تحديث: الخميس 28 ديسمبر 2017 - 12:10 ص بتوقيت القاهرة

أظن أن حالة من مراجعة الذات ومراجعة الأحداث تنال من الكثيرين منا مع اقتراب نهاية السنة. لا أعرف إن كانت هذه فعلا سنة أكثر كثافة بالأحداث من غيرها، أم أن ما يبدو لى أنه كثافة استثنائية هو فى الحقيقة الجرعة المعتادة لكن نهاية السنة تجعلها تبدو وكأنها باقى اكسير مركز علق فى أسفل الزجاجة. فقد أقول فى نهاية كل عام إن السنة كانت حبلى بقصص وتطورات اضطرتنى أن أتوقف أمامها كل شهر بل كل أسبوع، وأعود فأقول الشىء ذاته فى نهاية العام التالى.
***
طبعا تساهم التطورات السياسية فى المنطقة بخلق تصور عن رمال متحركة لا نخرج منها سوى للحظات نلتقط خلالها أنفاسنا على أرض يابسة قبل أن تلتهمنا الرمال من جديد وهى تتقلب لتكشف عن بواطن لم تكن فى الحسبان.
***
لا أعرف إن كانت هناك سنوات هادئة، فترات رتيبة، لا يعكر من طى صفحات أيامها أى عواصف. لكن هناك دوما تخيل بأن بعض السنوات السابقة ربما كانت أهدأ، ربما تلاحقت أيامها وفق توقعات من عاشها دون مفاجآت. ربما كانت سنوات لم تنفجر فيها أحداث فى وجوه من حضرها. أو قد يكون ذلك جزء من لعبة العقل الذى يصور، مع الوقت، فترات مضت على أنها كانت أكثر دفئا وأقل شراسة.
***
أنا عن نفسى، أظن أننى قد أكون مستعدة لمرحلة ذهنية أقل عنادا وأكثر انسجاما مع ما يحيط بى. ربما هو يقينى أننى كفرد لست اليوم فى موقع يمكنه أن يؤثر على الصورة الكبيرة. ربما كانت فعلا السنوات الأخيرة متعبة فى ما حملت من توقعات كبيرة ارتطمت بجدار خرسانى فتفتتت وتناثرت كالغبار. ربما هو استنتاج وصل إليه ملايين المتصالحين مع أنفسهم من قبلى: أن أتهادى مع التيار بدل أن أعاند الأمواج باستمرار، أن أتقبل أن التيار سوف يأخذنى فلا داع للسباحة عكسه، أن أعرف أننى لن أغير مجرى المياه.
***
هناك قطعا نوع من حكمة فى مفهوم التقبل. يبدو أن هناك نوعا من الراحة النفسية التى يكتسبها من يأخذ الأمور كما هى دون أن يحاول أن يعاكسها باستمرار. يسميها العرب «حتمية القدر»، وهو أيضا ما يسميه البوذيون بسلوك «زن»: حيث يركز الشخص فى تهادى أفكاره الداخلية دون أن يتعارك معها، فيصفى ذهنه من كل ما قد يتدخل فى الهدير المنساب فى داخله، يفتح مجالا بين عقله وقلبه لدورات من الأفكار تتحرك بانسيابية وأناقة. يقال إن لكل منا عينا ثالثة تقع فى وسط جبهتنا وتنظر إلى داخلنا وليس للخارج، فتساعدنا على تفكيك خيوطنا المتشابكة وعلى التصالح بين العقل والقلب.
*** 
ودون التبحر فى الروحانيات، تدعى كل ديانة أنها تحاول فكفكة تعقيدات تمنع النفس البشرية من الارتقاء إلى مراتب أكثر نقاء وأقل تأثرا بالمنغصات. من ناحية عملية، ها أنا أراجع سنة كانت مليئة بالتغييرات من حولى. لا أدعى أن لتعقيدات الوضع السياسى فى المنطقة أثرا مباشرا على حياتى اليومية، لكن بإمكانى الادعاء أن انتمائى للمنطقة العربية واهتمامى بالشأن العام وعملى فى مجال المساعدات الإنسانية يضفى ثقلا على هويتى يجعلنى فى كثير من الأحيان غير قادرة على أخذ مسافة كافية من الأمور، فأنفعل مع تغييرات يومية، أبكى مع أشخاص لا أعرفهم وأكاد أنفجر مع انفجار أودى بحياة ناس لم يخططوا للموت فى ذلك اليوم. 
***
هنالك تعبير باللغة الإنجليزية ينطبق على أمثالى من الناس وهو «يلبس القضية على كمه» (أى كم القميص) بمعنى أن تلتصق القضايا التى نؤمن بها بثيابنا فلا نستطيع أن نخلعها دون أن نخلع ثيابنا كلها فنصبح عراة. أنا محاطة بمن يلبسون القضايا المختلفة على أكمام قمصانهم فترانا جميعا ما زلنا نتعارك مع الموج بدل أن نتهادى معه. ها نحن اليوم مرهقون نتساءل عن جدوى قضايانا وعن فاعلية أدواتنا. أنا أتساءل، ودون أى نزعة انهزامية، عن حكمة تقبل لبعض الأمور وعدم مناكفتها، مع توجيه ما تبقى لدى من طاقة نحو أمور أعرف أننى، على الأقل فى المدى القصير، أستطيع أن أتحكم بها.
***
هو ليس اعتراف بالهزيمة، رغم أن هناك حاجة لمراجعة السنوات الست الماضية، سنوات التغييرات كما بات اسمها، لكنه دعوة للتأمل فيما يمكن أن يحمينى من خيبة الأمل ومن ذلك الشعور عديم الفائدة أننى أركض فى الفراغ مع الكثيرين من أصدقائى. هى دعوة لبعض من «الزن» بمعناه البوذى، أو التقبل بمعناه العربى، أو التهادى مع التيار كما يقال باللغة الانجليزية.
فى نهاية سنة مليئة بالعواصف، أتمنى لمن حولى تيارا هادئا يحملنا جميعا برفق نحو السنة الجديدة. نجلس على طرف مركب شراعى فى الغروب ونتهادى مع تيار نثق به فنعرف أنه لن يقلب المركب بمن فيه. أتمنى لنا تيارا صديقا يأخذنا من يدنا بنعومة، نمشى معه بدل أن نحاول أن نمشى فى عكس اتجاهه. أتمنى لنا رحلة دون زوابع ننظر فيها إلى الأفق ونستقبل سنة حنونة على الجميع.

 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved