فى مديح النفاق والفشل

محمد موسى
محمد موسى

آخر تحديث: الأربعاء 29 يناير 2014 - 5:00 ص بتوقيت القاهرة

بإيقاع قفزة الثعلب الرتيب تبدأ الأغنية. كان المطرب والملحن الفرنسى جاك بريل يقول إن الملحن الكسول الذى يضع لأنغامه إيقاع قفزة الثعلب لا يستحق عناء الاستماع. لكننا مستمرون، فالأغنية من تلحين محمد عبدالوهاب.

المقام حجاز، طبعا، فالأغنية تمجيد فى سيد الحجاز، الملك عبدالعزيز آل سعود الذى رسا به يخت المحروسة فى السويس، يوم ١٠ يناير ١٩٤٦. وبالمقدمة لمسة موسيقى خماسية، لكنها تقترب من الروح الإفريقية وليس الخليجية، ليس مهما الدقة.

الكلمات كتبها شاعر متوسط القيمة دائما، هو صالح جودت:

يا رفيع التاج من آل سعود

يومنا أجمل أيام الوجود

ثم يدخل فورا فى اللغة الركيكة، عندما يتحدث عن مصر التى «صحت مع الفجر الجميل، تنثر الورد على كل سبيل».

ويتجاوب الملحن الكبير مع الكلمات العشوائية بلحن عشوائى وهو يكرر عبارة «تنثر الورد، تنثر الورد» بميوعة لا تناسب مقام الحال.

بعدها يسخن الشاعر وهو يقول إن أنوار ملك الحجاز هى أنوار الخليل، وأنه «رسول الخير من عند الرسول».

«شيخ الملوك الحاكم المجرب المحتفظ بهمة الفتيان، يلتقى اليوم بفتى الملوك الهمام، المزدان بحكمة الشيوخ»، هكذا كتبت الأهرام يومها، ضمن معزوفة صحفية فى استقبال الملك السعودى، وما زال عبدالوهاب يغنى بطريقة رتيبة، وبلا روح:

أنت والفاروق للشرق منى

وعلى كفيكما أحلامنا

أى كلام، شاعر يرص عبارات تنتهى بنفس القافية، وملحن يتناولها على «الخفيف» بلا انفعال. الإيقاع يتكرر، والجمل الموسيقية صاعدة هابطة بملل لا مثيل له فى مشوار عبدالوهاب المديد.

المزيد من المبالغات:

واعقداها وحدة للعرب

واجعلا بنيانها بيتا حراما

يعنى الشاعر أن الوحدة العربية هى الكعبة الثانية.

عبدالرحمن عزام باشا، أمين الجامعة العربية وقتها، كتب فى مجلة المصور أن «مصر إنما تستقبل رجلا تمر الحقب ولا يرى الناس مثله». وكتبت روزاليوسف: ومهما تمادت القاهرة فى كرمها، فلن تستطيع أن تعبر عن عواطفها لضيفها العزيز.

أما صحيفة السياسة الناطقة باسم الأحرار الدستوريين فقد وصفت لقاء الملكين عبدالعزيز وفاروق بأنه «لقاء تشرئب إليه الأرواح، منذ صلاح الدين، إلى يوم تعود للإمبراطورية العربية أمجادها القديمة مضاعفة مجددة».

وعبدالوهاب ما زال يغنى:

أنتما عرشان فى ظل الكتاب

جمعت قلبيهما روح الإله

اللحن الممل يتوالى فى موجات متوقعة، واللوازم التى يدهشنا بها عبدالوهاب فى كل أغنياته جاءت هنا طويلة ومعقدة وبلا روح.

من نفس المقام لحن عبدالوهاب «مضناك جفاه مرقده»، لكنه هناك يخاطبنا من قمم الإبداع واللوعة، وهنا يؤدى واجبا لا يحركه، ولا نتحرك معه. وقفلة الأغنية نائمة لا تتسق مع وعود نهضة العرب، وبنيان العروبة الذى يشيده الملكان.

يدفع الملحن الكبير فى هذه الأغنية ثمن النفاق، مثل الذين كتبوا عن لقاء تشرئب إليه الأرواح منذ عهد صلاح الدين. ثم انتهى اللقاء ولم يرسم القائدان خارطة طريق الوحدة، ولم تعد للإمبراطورية العربية أمجادها القديمة، ولن تعود.

نسى المصريون كل هذه المبالغات، ومعها أغنية فاترة، وفاشلة لموسيقار الأجيال.

فاشلة لأنه كان يكذب.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved