انقلابات السياسة الدولية

إبراهيم عوض
إبراهيم عوض

آخر تحديث: الأحد 29 يناير 2017 - 12:50 م بتوقيت القاهرة

الرئيس الأمريكي الجديد، دونالد ترامب، ليس رجل سياسة يمكن توقع ما سيفعله وبالتالي أثر رئاسته للدولة الأقوى في العالم على السياسة الأمريكية وعلى السياسة الدولية التي تهمنّا تحديداً. رجل السياسة يجمِّع المصالح الداخلية والخارجية المختلفة لبلاده، وهي مصالح قد تختلف هنا أو هناك حسب الحزب الذي ينتمي إليه رجل السياسة في الأنظمة السياسية التعددية، ثم وفقاً لشخصية رجل السياسة نفسه، إلا أن الاختلاف يبقى في حدود لا يتخطاها إذ أن المصالح المجّمعة لأي دولة من الدول تحددها في المقام الأول اعتبارات وضعها في النظام الدولي، وهو وضع تشترك في تحديده مظاهر القوة السياسية والاقتصادية والعسكرية والثقافية والاتصالية للدولة، علاوة على نظرة الدولة إلى نفسها وإلى دورها في النظام الدولي. شخصية رجل السياسة تطبع اختياراته السياسية ولكنها لا تؤثر تأثيراً جَذرياً على التوجهات السياسية طويلة المدى لبلاده ولا على بنية السياسة الدولية. ثمة متغيران جديدان اثنان في الرئيس ترامب، الأول هو أنه ليس رجل سياسة كما سبقت الإشارة إلى ذلك، والثاني أنه يتخذ مواقف إن ترجمت إلى أفعال يمكن أن تفضي إلى تغييرات جذرية تماماً على التوجهات السياسية طويلة المدى للولايات المتحدة وعلى بنية السياسة الدولية. . ننظر أولاً وباختصار إلى خلفية ترامب غير السياسية ثم ننتقل إلى التغييرات الجذرية .

كما أنه ليس رجل سياسة، فإن الرئيس ترامب ليس من دوائر الأعمال التي بنت الاقتصاد الأمريكي القوي والمتجدد. هو ليس رجل صناعة أو مال أو تكنولوجيا مرتبطة بالابتكار، بل هو من خليط من قطاعات العقارات والبناء، والفنادق، والسمسرة، والاستثمار، والتسويق، والملاهي، وألعاب الحظ، ومسابقات الجمال، وغيرها. مصالح رجل الأعمال ترامب الذي أصبح رئيساً تتعلق بخدمات أغلبها في داخل الاقتصاد الأمريكي، وقليل منها في خارجه. وربما يكون هذا هو ما يفسِّر موقفه السلبي من حرية التجارة واتجاهه إلى الحمائية.

•••

الموقف السلبي من حرية التجارة ونتائجه هي أول التغييرات الجذرية المشار إليها وهي ذات أهمية قصوى لسببين لهما أهميتهما. السبب الأول هو أن حرية التجارة كانت هدفا أمريكياً منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وأنها كانت مكوناً أساسياً للخطاب السياسي والنظري والأيديولوجي الأمريكي، ويكفي تذكر الخطاب السائد في الثمانينيات والتسعينيات من القرن العشرين إبان مفاوضات جولة أوروجواي لتحرير التجارة العالمية، عندما أرادت الولايات المتحدة ألا يقتصر تحرير التجارة على السلع وحدها وإنما أن يمتدّ إلى الخدمات كذلك، هذا الخطاب انصبّ على وعد النمو والرخاء ورغد العيش عندما تنفك عن التجارة الدولية اسارها. السبب الثاني هو أن حرية التجارة مرتبطة بالسلام. العلاقات بين الدول التي تتشابك علاقاتها التجارية هي علاقات سلمية، بينما القومية الاقتصادية والحماية التجارية، هي وصفات للعلاقات غير الودية بين الدول بل إنها أدت إلى حروب بينها وكانت وراء التوسع الاستعماري نفسه. هذا هو الأساس النظري السياسي للدعوة إلى حرية التجارة. دعك في سياقنا عمّا إذا كان تحرير التجارة الدولية بعد انهاء جولة أوروجواي باتفاقية مراكش في سنة 1994 قد حقق فعلا لسكان العالم ولدوله الرخاء الموعود أو لا. بل اصرف النظر حتى عن أن الولايات المتحدة وغيرها من الدول المصنعة لم تكن وفية حقاً لحرية التجارة التي تدعو إليها. الكف عن الدعوة إلى حرية التجارة والتفاخر بفرض الحمائية التجارية هما في ذاتهما انقلاب في الخطاب السياسي الأمريكي وفي الإطار المفاهيمي للتحرك الدولي للولايات المتحدة، ثم هما يؤديان إلى انقلاب في العلاقات التجارية في العالم أو في بعض أقاليمه، بل وفي السياسة الدولية فيها. انظر إلى ردّ فعل الرئيس الصيني الذي جعل من بلاده بطلة الدعوة إلى حرية التجارة وإلى ما قاله المعلقون في إقليم آسيا والمحيط الهادي عن أن انسحاب الولايات المتحدة من "الشراكة عبر المحيط الهادي" تفتح الباب واسعاً أمام تعزيز القوة الاقتصادية ومن ثم السياسية للصين، وتمعّن في إلغاء رئيس المكسيك لزيارته لواشنطن على خلفية فرض ضريبة جمركية على الواردات المكسيكية لتمويل بناء سور بين البلدين. ليست الولايات المتحدة محبوبة في المكسيك أو في أمريكا اللاتينية عموماً إلى الدرجة التي تسمح لها بالمخاطرة باستعدائها!

•••

التغييرات الجذرية الثانية هي ما يمكن أن يلحق بالعلاقات الأمريكية الأوروبية. هذه التغييرات يمكن أن تأتي من أبواب ثلاثة. الأول هو موقف ترامب من حرية التجارة الذي نوقش أعلاه، والثاني هو موقف الرئيس الأمريكي من نفس فكرة الاتحاد الأوروبي والتكامل الأوروبي التي قال أن الزمن قد عفا عليها، مردفاً في مناسبة أخرى أن التحالف الأطلسي هو الآخر قد عفا عليه الزمن، والثالث هو تشديد الرئيس الأمريكي على المصلحة القومية وحدها وعدم اكتراثه المترتب على ذلك بمصالح غيره أو بالمثل المشتركة للإنسانية كتلك الكامنة في النظام الدولي لمعايير حقوق الإنسان. خطورة هذه الأبواب الثلاثة بالنسبة إلى أوروبا هي أنها إن اعترف بسلامتها وبجدارتها بالاحترام في العلاقات الأمريكية الأوروبية فإنه لن يمكن إنكار هذه السلامة وهذا الاحترام عليها في العلاقات في داخل الطرف الأوروبي نفسه، أي في العلاقات فيما بين الدول الأوروبية. صحيح أن بعض الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، خاصة في وسط القارة، وحركات سياسية شعبوية في عدد غير قليل من غيرها، تقترب من مواقف ترامب إلّا أن الأغلبية لا تسمح لنفسها بأن تمرق من هذه الأبواب ولا أن تعتنق هذه المبادئ، فهذه الأبواب وهذه المبادئ هي التي فتحت أبواب جهنم على القارة الأوروبية قرونا بعد قرون وأنزلت بها وبالعالم مأساتين مروعتين راح ضحيتها عشرات الملايين من البشر خلال ثلاثين عاماً من القرن العشرين. بالنسبة إلى أوروبا حرية التبادل التجاري والتكامل الأوروبي وتفكيك التعصب القومي ليست أفكاراً أو ترفاً وإنما هي أساس السلام بين دولها، سلام امتد لما يزيد على السبعة عقود منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وهي فترة سلام لم تعرف القارة مثيلاً لها على الإطلاق لأكثر من مائتي عام بل منذ ظهور الدولة القومية في منتصف القرن السابع عشر. التباعد بين الولايات المتحدة وأوروبا على خلفية هذه الأبواب الثلاثة، إن حدث، سيكون انقلاباً هائلاً في بنية السياسة الدولية بل زلزالاً يهزّ أعماقها.

ثالث التغييرات الجذرية هي الخاصة بالعلاقات بين الولايات المتحدة والاتحاد الروسي. على زمن الاتحاد السوفييتي كان الشق الفاصل في العلاقات بين واشنطن وموسكو مزدوجاً، الخطاب الشيوعي من جانب والخطاب الديمقراطي الليبرالي وفي القلب منه احترام معايير حقوق الإنسان من جانب آخر، ومن دون أن يكون في حديثنا هنا حكم على مدى الالتزام الحقيقي بمثل الشيوعية أو الديمقراطية وحقوق الإنسان. بعد انهيار الاتحاد السوفييتي تلاشى عنصر الشيوعية في الشق المزدوج ولكن بقي عنصر الديمقراطية وحقوق الإنسان كمبرر وسند للمواجهة الأمريكية الروسية. أما وقد تراجع احترام معايير حقوق الإنسان، بعد أن كانت الشيوعية قد سقطت، فما الذي بقى ليبرر الخصومة بين الولايات المتحدة وروسيا؟! هذا هو ما يبدو أنه منطق ترامب، سواء ضمنياً أو صراحةً، وهو بمثابة انقلاب هائل في السياسة الدولية. تفكيك الخصومات بين الدولتين النوويتين الأعظم مما يرحب به ولكنه إن كان مقترناً بالتعصب القومي والانغلاق، وازدراء من لا يشبهونك، والتمييز مثلا ضد اللاجئين والمهاجرين من الدول الإسلامية، فإنه لا بدّ من التحفظ عليه.

•••

آثار وصول ترامب على منطقتنا العربية الشرق أوسطية تستحق مقالة وحدها. باختصار التغيير الجذري الوحيد، والانقلاب في السياسة الدولية، سيحدث إن نقلت الولايات المتحدة فعلا سفارتها في إسرائيل من تل أبيب إلى القدس، وذلك لأن دولا أخرى ستحاكيه. غير أن هذا النقل سيؤدي أيضا إلى انكسار في العلاقات مع عدد من الدول الأوروبية الأكبر المتخوفة من آثار تقيّح القضية الفلسطينية على أمنها هي، فضلاً عن أنه سيقضي على أي فرصة للولايات المتحدة لكي تلعب دور الوسيط للوصول إلى تسوية للصراع الفلسطيني الإسرائيلي. بعض الدول العربية قد لا تجد غضاضةً في أن تفجُرَ الولايات المتحدة في انحيازها لإسرائيل وفي أن تلعب في نفس الوقت دور الوسيط، ولكن الشعب الفلسطيني لا يمكن أن يقبل ذلك. رغم ضعفه الإجمالي، فإن في يد الشعب الفلسطيني ورقة لا شك في قوتها وهي ورقة رفض الحلول التي لا تكفل له حداً أدنى من مصالحه، أي ورقة إنكار الشرعية على هذه الحلول. أما الموقف من الإرهاب الذي تمارسه "داعش" وغيرها فلن يكون فيه جديد تماماً. إدارة الرئيس أوباما حاربت هذه الجماعات بالفعل وليس متوقعا أن يرسل الرئيس ترامب قوات لتحارب على الأرض فتركيزه هو على الداخل الأمريكي. كل ما يمكن أن يفعله ترامب هو غض الطرف عن التدخل العسكري الروسي في سوريا والسكوت، إلى حد ما، على مساعي روسيا لجني الثمار السياسية لتدخلها في المنطقة.

الانقلابات المحتملة في السياسة الدولية تستحق منّا الانتباه والمتابعة والتحليل، أولاً لأننا جزء من النظام الدولي لا بدّ أن نهتم بسيره وتطوره وأن نحاول التأثير فيه وألا نكتفي بأن نكون مفعولاً به في هذا النظام، وثانياً لأن آثار وصول ترامب إلى السلطة علينا لن تتأتى من علاقاته المباشرة معنا وحدها بل إنها ستنتج أيضاً عن الانقلابات في بنية السياسة الدولية.

الانقلابات تفترض أن ترامب سيستطيع ترجمة كل أقواله ومواقفه الشخصية إلى أفعال!

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved