أى عاصمة لأى مصر؟

إبراهيم عوض
إبراهيم عوض

آخر تحديث: الأحد 29 مارس 2015 - 9:54 م بتوقيت القاهرة

حبر كثير جرى على الورق متحفظا أو معارضا معارضة صريحة لمشروع بناء عاصمة جديدة لمصر. وبعض الحبر أريق للتلاعب بالألفاظ الدالة على المشروع ما بين عاصمة وعاصمة إدارية ومركز إدارى، أو لاستعراض تجارب اعتبرت ناجحة لنقل عواصم لدول من مدن إلى مدن أخرى.

لم يدر حوار حقيقى ما بين الفريقين الأول والثانى، ربما لسرعة إيقاع التعليقات على المشروع أو لأن الفريق الرسمى المتبنى له ممتنع عن الدخول فى أى نقاش حيث أنه يظن، فيما يبدو، أن الأمر قد قضى ولم يصبح ثمة مجال لمقارعة الحجج بالحجج. المتحفظون والمعارضون لبناء عاصمة جديدة أثاروا حججا عديدة منها تلك الخاصة بمخالفة الدستور الذى ينص على أن عاصمة مصر فى القاهرة، وأخرى تتعلق بالعملية التعسفية لاتخاذ القرار التى غابت عنها تماما آراء المختصين، والمواطنين فى مسألة قلَت المسائل التى تتعداها أهمية، وثالثة عن القيمة التاريخية للقاهرة وموقعها الذى لا يقارن به أى موقع آخر كعاصمة لمصر، ورابعة عن ترتيب الأولويات والتكاليف الباهظة لمثل هذا المشروع فى وقت تنوء فيه البلاد تحت مشاكلها الاقتصادية والاجتماعية التى تحتاج إلى أموال هارون فضلاً عن مشاركة المصريين لعلاجها، وخامسة تتعجب من التشبه بدبيّ فى بيئة تختلف عنها تماما تاريخيا وجغرافيا وسكانيا وثقافيا. بخلاف التلاعب بالألفاظ، لم تصدر عن الفريق الرسمى إلا حجة جديدة واحدة وهى أن التوسع الحضرى إلى الشرق من القاهرة هو التوسع الطبيعى، وربما كان هذا الفريق قد اكتفى بما أعلن فى المؤتمر الاقتصادى عن أن المشروع لن يكلف الدولة شيئا بخلاف الأرض التى سيقام عليها، بل إنها ستفوز مجانا بأبنية حكومية مفتخرة فيه. أما استعراض التجارب التى اعتبرت ناجحة فهو لم يتساءل إن كانت ناجحة فعلاً أم لا، كما أنه لم يضعها فى إطار مناقشة مشروع العاصمة المصرية الجديدة.

•••

فحص الحجج ووجاهتها هى وظيفة كل معلق بل هى واجب عليه تجاه الجماعة الوطنية التى تهمه. من قال أن العواصم الجديدة كلها ناجحة؟ وعلى أى حال، ألم يلحظ من يتحدثون عن العواصم الجديدة خصائص الدول التى انتقلت عواصمها؟ أستانا؟ هى العاصمة الجديدة لدولة صحراوية نفطية نزلت عليها ثروة هائلة منذ استقلت بانهيار الاتحاد السوفييتى، ألا وهى كازاخستان. ثم إنها، مثلها مثل البرازيل، وباكستان، ونيجريا، وكوت ديفوار، كلها دول حديثة. تباينت الأسباب فى بناء العواصم الجديدة ما بين عزم البرازيل على مدِ العمران من ساحل الأطلسى الذى استوطنه المكتشفون الأوروبيون إلى داخل القارة البكر، مرورا برغبة باكستان ونيجريا فى الهروب من التكدس، إلى تطلع الحاكم إلى رفع مقام مسقط رأسه كما فى حالة كوت ديفوار. ولكن لأن كل هذه الدول والتجمعات البشرية الموحدة فيها حديثة، فإن التاريخ والذكريات والقيمة لم تكن قد تراكمت فى عواصمها القديمة مثلما هى حال القاهرة.

الحجج المعلنة فى المؤتمر الاقتصادى واهية. ستفوز الدولة بأبنية فاخرة ولكن قيمة هذه الأبنية ليست إلا نسبة فى غاية الضآلة مما ستحققه الشركة المسؤولة عن المشروع من أرباح من جرّاء استغلال الأراضى، التى ستحصل عليها. وتثور الدهشة من المحفل الذى عرض فيه المشروع وفوجئ المصريون به. هل يصح عرض مشروع عن عاصمة للمصريين فى مؤتمر للاستثمار؟ هل إقامة عاصمة هى مشروع استثمارى أم أن للعواصم أبعادا ومعانى تاريخية وجغرافية وسياسية وثقافية واجتماعية هى أول ما ينبغى أن تأخذه أى سلطات فى الاعتبار وهى تتخذ قرارات بشأنها؟ هل من المعقول أن يترك للشركة المسئولة عن الاستثمار تصميم العاصمة الجديدة، بينما كل الأبعاد والمعانى المذكورة بعيدة عنها، فهى شركة للاستثمار العقارى لا خبرة لها بالبيئة المصرية المتنوعة؟

هل يريد وادى النيل أن تكون عاصمته فى الصحراء لا يربطها به رابط؟ المفارقة هى أن أياما قليلة فصلت بين قرار إقامة العاصمة الجديدة فى الصحراء ما بين القاهرة والسويس، والتوقيع على الإعلان الثلاثى الذى أرادت به مصر ضمان وصول مياه النيل إليها! وأنت إن قلَبت الموضوع على جانب أخر ستجد نفسك تتعجب. كان الإعلان عن أن العاصمة الجديدة ستبعد أربعين كيلومترا عن القاهرة، وهو ما يعنى فى حقيقة الأمر أنها سرعان ما ستلتقى بالقاهرة لتنشأ كتلة حضرية واحدة من على أبواب السويس وحتى مدينة 6 أكتوبر! هل هذا من حسن التخطيط؟ مصر ليست دولة حضرية أو دولة/مدينة مثل بلدان الخليج أو سنغافورة، وليس فى هذا ادعاء تميز وإنما هو تسجيل لواقع بما له وعليه. أما عن أن التوسع الطبيعى هو إلى الشرق فربما كان ذلك صحيحا بالنسبة إلى القاهرة، ولكنه ليس طبيعيا بالنسبة إلى مصر. على أى حال، توسع القاهرة ينبغى أن يقتصر على إيجاد بيئة لائقة لسكانها الحاليين، ولنموهم الطبيعى، أما غير ذلك فهو غير مطلوب بتاتا. توسع مصر هو المنشود وهو توسع لا غنى عنه بعد أن ضاق الوادى العتيق بسكانه.

•••

جميع مشروعات التوسع فى القرن العشرين لم تكن إلى الشرق بل إلى الغرب، من منخفض القطارة مرورا بالوادى الجديد وبتوشكى نفسها وحتى فكرة إقامة واد جديد إلى الغرب من النيل بمحاذاة الوادى العتيق ومتصلاً به. كل هذه المشروعات كانت ترتبط بالوادى عن قرب أو عن بعد وتوسع فيه، ولم تكن بصدد إنشاء نتوء فى الصحراء بعيدا عنه. كل هذه المشروعات أبقت على القاهرة عاصمة عند ملتقى الوجهين، وأى رمز على امتداد الجماعة البشرية المصرية واستمرارها أقوى من هذا؟

والقاهرة كذلك رمز لمصر ولكيفية تكوُن الجماعة البشرية فيها ولخصائصها. مصر محصلة لتراكمات تاريخية وثقافية هى نتيجة لجغرافيتها مثلما أن جغرافيتها متأثرة بها. مصر تتوسط العالم العربى، مشرقه وخليجه إلى شرقها، ومغربه إلى غربها، والقاهرة تتوسطها. ومصر فى منتصف العالم العربى، قارتها الإفريقية فى جنوبها، والبحر المتوسط فى شمالها؛ مصر فى قلب هذه الفضاءات الجغرفية الثلاثة، والقاهرة تتوسطها. عاصمة لمصر فى الصحراء بالقرب من البحر الأحمر تقلب جغرافية مصر وتاريخها، وتنحرف بمستقبلها.

أى عاصمة لأى مصر نريد؟

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved