علي عبد الله صالح .. وأقرانه

أيمن الصياد
أيمن الصياد

آخر تحديث: الأحد 29 مارس 2015 - 4:54 م بتوقيت القاهرة

عندما دخل الحوثيون صنعاء العاصمة  (سبتمبر ٢٠١٤) صرخ أحد المذيعين على إحدى الفضائيات المصرية: «أرأيتم كيف يهدم الإخوان المسلمون الدولة» ثم ترحم على الرئيس «المشير» على عبد الله صالح (بوصفه ينتمي إلى مربع ما قبل «مؤامرات» الربيع).
لم يكن حديث الإعلامي «الزاعق» بأكثر من تعبير عن حالة «الثنائية الاستقطابية» الحاضرة، التي تغيب معها عادة حقائق الأمور.

صالح في الوسط في قمة سرت - أكتوبر ٢٠١٠ (REUTERS / Asmaa Waguih)

بعد أن دارت الآلة العسكرية، ومعها الآلة الإعلامية صار القاصى والدانى يعلمون الآن أن الرجل الذى حكم اليمن لمدة تتجاوز الثلاثة وثلاثين عاما هو فى قلب المشهد، وهو الذى يتخذ من الحوثيين طريقا ليعود بهم إلى القصر. وهذا باختصار «المشهد الأخير» في قصة، هي كقصص «أقرانه» مع القصر والسلطة وشعوبهم ــ طويلة.

وُلد علي عبد الله صالح فى عام ١٩٤٢ فى قرية بيت الأحمر بسنحان جنوب شرقي العاصمة. وتقول الرواية إنه تلقى تعليمه فى «المعلامة»؛ وهى نوع من المدارس غير النظامية يشبه «الكُتاب» فى مصر. وكان رفيقُه أيامها علي محسن الأحمر (قيل إنه أخ غير شقيق لأحد إخوته غير الأشقاء). ترافق الصبيان فى مراحلهما الأولى، ثم سافرا معا إلى صنعاء للالتحاق بالجيش عام ١٩٥٨ ثم بمدرسة صف ضباط القوات المسلحة فى عام ١٩٦٠ ليرقى لرتبة ملازم ثان عام ١٩٦٣ وهكذا يأخذ طريقه في الجيش حتى يصبح فى إبريل ١٩٧٥ قائدًا للواء تعز فى أثناء رئاسة الغشمي الذى ينتمى للقبيلة ذاتها «حاشد». ثم كان بالصراعات ذاتها التى أتت بالغشمى بعد اغتيال الحمدي (أكتوبر ١٩٧٧) أن أتت بصالح بعد مقتل الغشمي فى يونيو ١٩٧٨.

وبغض النظر عما صاحب ذلك من تفاصيل معقدة، ثم ما كان بعد ذلك من وقائع وحكايا طويلة فربما يمكن أن تسمح مساحة هذا المقال بالتذكير ببعض من الحقائق التى ارتبطت بعقود ثلاثة من حكم علي عبد الله صالح، والذى لم يهتز إلا بعد أن ثار عليه شعبه فى عام الثورات الشهير (٢٠١١):

١ ــ بداية اختبر اليمنيون واقعيا كيف أن فترة ٣٣ عاما قضاها صالح فى القصر كانت كافية لتعميق ثقافات تترعرع عادة فى مثل تلك النظم «المستقرة» حيث تشيع كل أمراض الشخصنة والاستبداد والفساد والارتزاق والنفاق، حتى تصبح جزءا من الثقافة العامة التى ربما لم يبرأ منها غير جيل جديد لم يتلوث بعد. (كان اليمن «السعيد» وقت صالح فى آخر سلم الشفافية والنزاهة الدولية بترتيب ١٥٤ من ١٨٠ دولة).

٢ ــ وكأقرانه، سمحت فترة الحكم الطويلة ــ التي لا تنتهي عادة إلا بالإنقلاب أو الموت ــ بأن تسيطر «جماعة الرئيس» تدريجيا (القبيلة ثم العائلة فى الحالة اليمنية) على مقدرات البلد، وخاصة على مفاصله الأمنية. فصار الجيش «حاشديا»، وصار الابن عندما كبر قائدا عسكريًا. ومع غياب للمساواة والمواطنة، كان من الطبيعي أن تصبح القبيلة عند نفر غير قليل من اليمنيين البسطاء قبل الوطن، ثم كان من الطبيعي أيضًا أن تصبح حرب ١٩٩٤ الدامية التى سُوقت على أنها دفاع عن الشرعية ووحدة الدولة أمام دعاوى الانفصال (أو فك الارتباط فى مسميات أخرى) نموذجًا لتغطية الفشل فى تعميق الانتماء الوطني باللجوء إلى السلاح والقمع. (من المثير أن أطراف اللعبة الأساسيين اليوم «دفاعا عن الشرعية»، كانوا وقتها يتحركون فى الاتجاه المضاد)

٣ ــ وكما أقرانه أيضًا، وإن اختلفت التفاصيل لم يبرأ نظام صالح من عقلية «شراء الولاءات» المتوارثة فى تاريخ المنطقة التى تعلم حكامُها درسَ المعز الأول؛ تلويحًا بالسيف والذهب. وهذا ما قد يفسر لدارسي تاريخ اليمن الحديث ما قد يستوقفهم من انقلابات حادة «ومفاجئة أحيانا» تطرأ على خريطة التحالفات.

٤ ــ ومثله كمثل أقرانه، يذكر المتابعون لتاريخ الرجل وتصريحاته كيف كان يرهب الداعين للديموقراطية بالتلويح بالفزاعات التقليدية. مثل الإخوان المسلمين، وصعود القاعدة، والهيمنة الإقليمية الإيرانية، وتفكك اليمن.

٥ ــ وكأقرانه أيضا، كان «مرض التوريث» المسمار الأخير فى عرش علي عبد الله صالح، والذي فعل كل ما بوسعه لتمهيد طريق القصر لابنه الأكبر أحمد (مواليد ١٩٧٢) والذي عينه والده قائدا للحرس الجمهوري، قبل أن يعينه الرئيس هادي في أبريل ٢٠١٣ سفيرا لدى الإمارات العربية المتحدة (قيل وقتها أنها خطوة لمنحه الحصانة اللازمة من المساءلة عن ما نسب إليه من انتهاكات صاحبت محاولات أبيه للقضاء على ثورة الشباب). ففي سطور قصة صراع العرش الدامية المثيرة أن علي محسن الأحمر قائد الجيش القوى ورفيق درب صالح وابن قبيلته ويده اليمنى منذ تولى صالح السلطة رفض أن يتنحى جانبا ليفسح الطريق للابن المدلل، رافضا أن يكون تحت إمرته بعد هذه السن وكل هذه السنوات فى الخدمة العسكرية.. وكلنا يعرف بقية القصة.

٦ـ ثم كأقرانه أيضًا، كان هناك من حاول إجهاض «راديكالية» الثورة على نظامه، بتسويات وتفاهمات وصفقات نعلمها جميعًا.

•••

في زمن صالح، كزمن غيره غابت السياسة «الحقيقية»، فأخذ الدين مكانها.

لحسابات «مفهومة» غض علي عبد الله صالح الطرف، عن المدارس الدينية السلفية ذات الفكر الوهابي. وكان غريبًا، أو ربما مفهوما أن أكثرها تشددا كان فى صعدة، معقل الزيدية (ولتلك المدارس «سياسيا» قصة أخرى طويلة). ثم كان أن لعب صالح «كأقرانه» لعبة التناقضات الخطرة، فسمعنا عن تأسيس «منتدى الشباب المؤمن» فى صعدة أيضا عام ١٩٩٠ «للحفاظ على المذهب الزيدي وتدريسه». وهو المركز الذى كان نقطة الانطلاق الحقيقية للحوثيين. ثم كان أن زاحمت الانتماءات الطائفية تلك القبلية وانشغل الناس عن تردي أحوالهم المعيشية وعن استبداد الحاكم بمعاركهم الصغيرة (بعضها حول مسائل خلافية عمرها أربعة عشر قرنا). ولم يكن ذلك بمختلف أبدا عما جرى هنا وهناك فى هذا القطر أو ذاك، مع اختلاف التفاصيل.

والمثير أن الرجل الذى أدمن «لعبة التناقضات» ولعبها لعقود بكل مهارة، اجتمع ضده كل المتناقضين فى تلك الأيام من ٢٠١١، الحوثيون، والحراك اليمني الجنوبي، بل حتى الحاشديون. ساعين إلى الحصول على حقوقهم المدنية والإنسانية في المواطنة والمساواة والعيش الكريم. وتذكر صور تلك الأيام كيف كان للقبائل خياما فى «ساحات التغيير». كما تذكرنا الوقائع أيامها كيف أن المحتجين، فى دولة يحمل كل أهلها السلاح، لم يطلقوا رصاصة واحدة.

يخطئ من يعتقد أن استحضار الدين إلى ساحة السياسة، أو بالأحرى استخدام المشاعر الدينية لخدمة التمكين السياسي، كان حكرا على هذه الجماعة أو تلك، فهكذا فعلت كل سلطة أيضا، ولم يكن صالح «كما أقرانه» ببعيد عن ذلك. يذكر المعنيون كيف جرى تأسيس «هيئة الفضيلة» فى يوليو ٢٠٠٨ على نهج «هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»، وكيف رحب بها علي عبد الله صالح، رغم رفض حزب الإصلاح «الإخوان المسلمون» لها. وكانت الهيئة التى منعتها الطبيعة المسلحة لأفراد الشعب اليمنيين أن تصبح بقوة مثيلتها السعودية قد خرجت من رحم «جامعة الإيمان» التى أسسها الشيخ عبدالمجيد الزنداني عام ١٩٩٣.

فى العام ذاته بنى رئيس الدولة التى تعد من الدول «الأفقر» فى العالم مسجده «الأضخم» على مساحة تتجاوز الـ ٢٢٢ ألف متر مربع، وبتكلفة تزيد على ١١٥ مليونا من الدولارات. ثم كان أن أسماه «جامع الصالح». ولم يكن من المستغرب أن يشاركه مراسم الافتتاح وفود «رسمية» من الدول العربية «الشقيقة».

•••

والحاصل أن صالح، والذي حارب الحوثيين، ثم حارب بهم معارضيه، ثم حاول أن يعاقب بهم من ثاروا عليه، كان وراء جموحهم الذي كان أن تجاوز خطوطا حمراء فذهب باليمن إلى أول الطريق إلى فوضى لم تصل ذروتها بعد. إذ يعلم الجميع أن التأثير الواقعى للضربات العسكرية الحالية لن يطول الحوثيين كطائفة، بقدر ما سيدمر القوة العسكرية «النظامية» الموالية لصالح، وهى للأسف عصب الجيش اليمني (معسكرات وأسلحة)، وهو ما سيأخذ البلد الصغير، ذا التاريخ الطويل والجغرافيا الوعرة والثأرات المتراكمة إلى ما لا يعلمه إلا الله. ومثله (كمثل أقرانه) يتحمل الرجل الذى حكم البلد ثلاثة عقود دون أن يجعله يعرف معنى «المواطنة الحقة» والدولة المعاصرة، كل الوزر. 

اليمن عشية «عاصفة الحزم»

ثم يبقى على هامش ما نراه الآن (على شاشات التلفزيون التى احتشدت للحدث) والذى هو نتاج طبيعى لما أوصل إليه صالح بلده، عدد من الملحوظات:

١ ــ لأسباب متفاوتة أخذت العملية العسكرية الأخيرة كل هذا الزخم الإعلامى، رغم أنها لم تكن الحرب الأولى «أو الأكبر» فى هذا البلد الصغير، الذى لم يرغب حاكموه، ولا مجاوروه أبدا فى أن يكون «دولة معاصرة» تقوم على أسس المواطنة الحقيقية التى بها، لا بغيرها يعلو الانتماء للدولة على ماعداه من انتماءات قبلية أو طائفية أو جهوية.

٢ ــ أن بعض المقاربات السياسية، مثلها مثل كثير من التغطيات الإعلامية إنما تعكس عدم إدراك حقيقى لتعقيدات الوضع السياسى والاجتماعى فى اليمن، فضلا عن التاريخ الطويل والمتوارث لتلك التعقيدات، ومنها ما يرتبط بعلاقات جوار تعود تعقيداتها إلى القرن الأول الهجرى (موروثات «غمدان» فى المخيلة الشعبية).

٣ ــ أنه فى إطار الجهد المحموم لتغيير مفاهيم الصراع فى المنطقة، وصناعة صراعات بديلة تقوم على أساس طائفي، ينجر بعضنا للأسف (رسميا وإعلاميا) إلى تبسيط مخل يعتمد ثنائية لا وجود لها فى الواقع فى توصيف الصراع فى اليمن. فعلى الرغم من تشيُّع بعض الحوثيين، فإن الأغلبية التى تناصرهم هم من الطائفة الزيدية (الأقرب للسنة) وهم أغلب سكان شمال اليمن، كما أن الجسد الرئيس للميليشيات الحوثية أو من يقاتل معهم يتكون على الأرض من خليط من أبناء القبائل السنية والزيدية، الذين لا يرون فى هذا الصراع إلا أنه صراع سياسى هدفه السلطة والثروة. وهذه بالمناسبة حقيقة كل الصراعات التى رفعت شعارات دينية أو مذهبية طوال تاريخنا الذى لطالما اختفت فيه أهواء السياسة وأطماع السلطة خلف لافتات دينية أو مذهبية.

٤ ــ أن سطحية «الثنائيات» التى عمت الخطاب الإعلامى فى سنوات الإنقلاب على الربيع العربى تواجه اختبارا كاشفا بما جاءت به حقائقُ ورياحُ «عاصفة الحزم». إذ لا يمكن تجاهل أن الائتلاف المشارك أو المؤيد للضربة العسكرية ضم إلى جانب السعودية؛ الولايات المتحدة الأمريكية، ومصر السيسى، والإخوان المسلمون، وقطر تميم، وتركيا أردوجان.. بل والقاعدة.

٥ ــ أن الاستخدام «التليفزيونى» لأسلحة شديدة التطور فى معركة تحكمها طبيعة معقدة التضاريس الجغرافية والاجتماعية والقبلية، لا يمكن بأى حال حسمها بطائرات إف ١٦ مهما كان الدعم اللوجستى أو الاستخباراتى الأمريكى، كما لا يمكن حسمها ببيانات تأييد إقليمية أو دولية، بل لابد «للحسم» من مواجهة برية لن تحدث أبدا. ولمن لا يريد أن يرى ذلك أن يعود إلى يوميات حرب صعدة بفصولها الست. أو أن ينظر شمالا إلى ما يدور فى العراق. كما بوسعه أن يعود إلى تجربة الجيش المصرى الستينية فى اليمن.

٦ــ صحيحٌ أن بعض مايجرى على جبال اليمن الساخنة، فيه ظلال لأوراق على طاولة «لوزان» السويسرية الباردة. حيث يضغط الأمريكيون للوصول إلي اتفاق يريدونه حول الملف النووي الإيراني. وصحيحٌ أن إيران موجودةٌ بقوة فى المشهد الإقليمى، وصحيحٌ أن ظلالها اقتربت بأكثر مما يجب من البوابة الجنوبية (التى كانت دوما حرجة) للمملكة التى تحاول أن تعيد التوازن «المطمئن» داخليا وخارجيا، فى أجواء شديدة الاضطراب، ولكن من الصحيح أيضا أن هناك قدرا من المبالغة إعلاميا فى تضخيم هذا الدور على حساب الدور الفعلى لعلي عبد الله صالح الذى لم يوفر جهدا أو وسيلة للعودة إلى المشهد (وللرجل خبرة طويلة باللعب على التناقضات) إذ لا يوجد من لا يعلم أن الأحداث الأخيرة والتعاظم البادى للدور الحوثى ليس نتاجا للدعم الإيرانى فحسب (وهو موجود)، وإنما للتحالف مع علي عبد الله صالح الذى يتطلع إلى عودته هو وعائلته إلى السلطة. فلم يكن الحوثيون ليستطيعوا السيطرة على صنعاء (العاصمة) لولا تواطؤ الجيش اليمني الذى تربطه بصالح علاقات وثيقة. (للتذكرة دور صالح فيما يجرى هو الذى دفع الأمم المتحدة في نوفمبر ٢٠١٤ لفرض عقوبات على الرئيس السابق والقيادات الحوثية التى تحالف معها).

•••

وبعد..

فصالح كرفاقه، ليس شخصا بل نظاما ثار عليه «الربيع العربى» وهو الآن يحاول أن يعود. تختلف الوسائل والتفاصيل من قطر إلى آخر. لكن الحقيقة واحدة: أنظمة لا تصدق أن لا مكان لها فى عصر جديد. بعضها نجح فى أن يجد لقدمه مكانا، فظن أنه «عاد». وبعضها وإن ترنح لم يتزحزح. ولكن .. لا تخدعنكم الابتسامات المطمئنة والصور. فلكل عصر حقائقه، وهكذا يُكتب التاريخ.

………………
………………

وعلى الذين لديهم حساسية من نسائم «الربيع»، وهو مرضٌ يعرفه الأطباءُ على أية حال ــ أن يدركوا أن كل ما جرى من دماء على مدى السنوات الأربع، فى هذا القطر أو ذاك (لا أستثنى أحدا) لم تكن أكثر من نتائج لمحاولات العودة «والانتقام» المحمومة من نظم ما قبل الثورات. وما فعله على عبد الله صالح ليس أكثر من مثال لما فعله «ويفعله» غيره، وإن اختلفت التفاصيل.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لمتابعة الكاتب:
twitter: @a_sayyad
Facebook: AymanAlSayyad.Page

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

روابط ذات صلة:
ــ لقاء وزير الدفاع السعودي بابن صالح
ــ كيف أخذ صالح بلده إلى الفوضى
ــ ميساء شجاع الدين:  اليمن بين إيران والسعودية

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved