تطور الأحكام القضائية فى «ازدراء الأديان» ومدلولاتها المجتمعية
أكرم السيسى
آخر تحديث:
الثلاثاء 29 مارس 2016 - 9:50 م
بتوقيت القاهرة
استُبدلت دعوى «الحسبة» بقانون «ازدراء الأديان»، الأولى هى المطالبة بحق من حقوق الله تم الاعتداء عليه، والثانية هى معاقبة من يحاول السخرية من الأديان، تغير فى المسمى دون المضمون، والهدف واحد: معاقبة الفكر والبحث العلمى.
شهد القرن العشرون قضيتى حسبة تدين أستاذين فى قسم اللغة العربية بآداب القاهرة، الأولى فى بداية النصف الأول من القرن والثانية فى نهاية النصف الثانى.
كانت الأولى بلاغ للنائب العام «30 مايو 1926» ضد طه حسين على كتابه «الشعر الجاهلى»، وقد تضمن البلاغ أربعة اتهامات:
الأول: أن المؤلف أنكر ما جاء فى القرآن فى إخباره عن إبراهيم وإسماعيل بقوله «للتوراة أن تحدثنا عن إبراهيم وإسماعيل وللقرآن أن يحدثنا عنهما أيضا ولكن ورود هذين الاسمين فى التوراة والقرآن لا يكفى لإثبات وجودهما التاريخى».
الثانى: إنكار ما هو معلوم من الدين بالضرورة عندما اعتبر القراءات السبع غير منزلة من عند الله.
الثالث: التعريض بنسب النبى «صلى الله عليه وسلم» بعدم اعتبار قريش وبنى هاشم صفوة العرب، وإنكار أن العرب هى صفوة الإنسانية.
الرابع: إنكار أن للإسلام أولوية فى بلاد العرب باعتباره امتدادا لدين إبراهيم.
كان المقصود من هذه الاتهامات تكفير طه حسين، ولكن النائب العام «محمد نور» كانت أول تعليقاته أن «العبارات جاءت فى كتاب فى سياق الكلام على موضوعات، فلأجل الفصل فى هذه الشكوى لا يجوز انتزاع تلك العبارات من موضعها والنظر إليها منفصلة». «راجع قرار النيابة فى كتاب الشعر الجاهلى – مطبعة الشباب».
واستمر النائب العام عشرة أشهر للبحث والاستجواب حتى وصل إلى قراره بحفظ البلاغ «30 مارس 1927»، وقد استند إلى قانون العقوبات «المادة 139» الذى يشترط توفر أربعة أركان لإثبات الإدانة: 1ــ التعدى، 2ــ وقوع التعدى بأحد الطرق العلنية، 3ــ وقوع التعدى على أحد الأديان، 4ــ القصد الجنائى.
برأ النائب العام ساحة الباحث بناء على أمرين، أولهما إنكاره فى التحقيقات طعنه على الدين الإسلامى، وأن ما ذكره هو فى سبيل البحث العلمى لا غير، كما أقر بأنه مسلم ومصدق بكل ما جاء فى القرآن الكريم، وثانيهما مقال «العلم والدين» لطه حسين بجريدة السياسة الأسبوعية «19 يوليو 1926» أوضح فيه أنه اتبع منهجية الشك وعدم التسليم بأى معلومة إلا بعد البحث العلمى الذى يقود إلى التصديق.
وقد افترض طه حسين –فى مقالته، أن لكل امرئ شخصيتين متباينتين، «إحداهما عاقلة تبحث وتنقد وتحلل، والأخرى تشعر وتتألم وتفرح فى غير نقد ولا بحث ولا تحليل، وتلك الشخصيتين متصلة بمزاجنا وتكويننا لا نستطيع أن نخلص من إحداهما، فما الذى يمنع أن تكون الأولى عالمة باحثة، وأن تكون الثانية مؤمنة مطمئنة طامحة إلى المثل الأعلى».
ورغم أن النائب العام أقر بتوافر الأركان الثلاثة الأولى –سابقة الذكر، إلا أنه لم يجد للقصد الجنائى موضعا، فضلا عن أنه لم يقتنع بنظرية الشخصيتين لكل امرئ، لأنه لا يمكن الجمع بين النقيضين فى شخص واحد، كما أنه أفصح عن عدم «إدراكه (لادعاء الدكتور» بأن العلم من اختصاص القوة العاقلة والدين من اختصاص القوة الشاعرة»، واقتناعه بأن «العقل هو الأساس فى العلم والدين معا، وأنه إذا وجدنا العلم والدين يتنازعان فهذا بسبب أننا ليس لدينا القدر الكافى من كل منهما، وهذا ما نعرفه فى أنفسنا، أما إذا كان الدكتور لديه القدرة على ما يقول فليس ذلك على الله بعسير».
وما هو جدير بالذكر، أن النائب العام لم يفته أن يُحيى الجانب العلمى والبحثى فذكر «أن للمؤلف فضلا لا يُنكر فى سلوكه طريقا جديدا للبحث حذا فيه حذو العلماء الغربيين»!
***
وأما القضية الثانية تخص مجموعة أبحاث تقدم بها نصر حامد أبو زيد للترقية لدرجة «أستاذ» «1995»، اعترض عليها أحد أعضاء لجنة الترقيات، الأمر الوارد حدوثه مع أى شخص، ولكنه لم يحترم سرية التقارير طبقا للقوانين، وراح ينشر على العامة فى المساجد ووسائل الإعلام نقده للأبحاث واعتبرها مخالفة لعلوم الدين، على الرغم من أن الباحث أكد أنها تأويلات يمكن أن تكون خاطئة!
وانتهز التيار الدينى الفرصة فأقام دعوى تفريق بين الباحث وزوجته الأستاذة الجامعية ابتهال يونس، وصرح نصر أبو زيد فى جميع وسائل الإعلام إيمانه بوحدانية الله وبالكتب السماوية جميعا وبكل الأنبياء والرسل، ولكن الزمن قد تغير، فلم يُتقبل منه كما تُقبِل من طه حسين، وحُكم عليه بالتفريق بينه وبين زوجته باعتباره كافرا، وكان هذا الحكم هو الأول من نوعه فى تاريخ القضاء المصرى!
مر ما بين براءة طه حسين وتكفير نصر أبو زيد 68 عاما، فكان حكم البراءة الذى حَيا العلم دالا على عصر ليبرالى كان فيه الرأى بالرأى، والحجة بالحجة، وتميز بسعة الأفق، والتسامح، والمهنية، والتعليم المتميز الذى أفرز لنا العباقرة: مصطفى مشرفة، أنور المفتى، النحاس، طه حسين، العقاد، أحمد شوقى، الحكيم، نجيب محفوظ، عبدالوهاب، أم كلثوم، إسماعيل ياسين، الريحانى، فاتن حمامة...إلخ.
بينما كان حكم التفريق كاشفا عن عصر للظلام سيطر عليه التيار الدينى، وتَقابل الفكر والإبداع بالعنف «مقتل فرج فودة والاعتداء على نجيب محفوظ»، وحرية التعبير بازدراء الأديان وبالسجن «فاطمة ناعوم»، فتميز بضيق الأفق والتعصب وخلط الدين بالسياسة، وبأحكام قضائية أعادت لنا محاكم التفتيش، وتعليم سيئ أفرز لنا دعاة ينشرون الجهل والعنف.
وعجبا لمجتمع لا يغفر لوزير عدل زلة لسان اعتذر عنها مرارا، والأدهى أن يقيم «مستشار» مصرى مقيم بالسعودية دعوى للمطالبة بإعدام الوزير السابق! وفى المقابل يتجاوز عن تصريحات له تطالب بمعاقبة والدى الإرهابى، ويتمنى إعدام المئات من الجماعات المتطرفة!
وإذ ننتهز هذه الفرصة لنهيب بشباب القضاة أن يقتضوا بمشايخهم أمثال السنهورى ومحمد نور، وهذا ليس تشكيكا فى ضمائرهم –ولهم كل الاحترام والتقديرــ ولكنه إدانة لثقافة ظلامية سادت المجتمع وكل مؤسسات الدولة فلم ينجو منها القضاء.