أمريكا.. من أين وإلى أين؟

جميل مطر
جميل مطر

آخر تحديث: الأربعاء 29 مارس 2017 - 9:25 م بتوقيت القاهرة

علمونى فى سنوات البلوغ أن أسمع كثيرا وأتكلم قليلا، وعلمنى أستاذ عظيم فى مهنته ومداركه أن أسأل «السؤال الصح» لأحصل على الإجابة «الصح»، وتعلمت من خيرة الزملاء والأصدقاء أن الحوار بين المختلفين فى المشارب أقصر طريق للفهم العميق والكتابة الرصينة. صلاح الدين حافظ ومصطفى نبيل وسلامة سلامة ومحمد سيد احمد ومحفوظ الأنصارى وشكرى فؤاد وسميح صادق. كنا نلتقى مرة فى الأسبوع. فى معظم المرات كنا نستضيف من نعرف أنه سيضيف. استضفنا جلال أمين والسيد ياسين ومكرم أحمد وحسنين هيكل وعلى الدين هلال وفهمى هويدى ولطفى الخولى وفيليب جلاب وكثيرين وكثيرات من مصر وخارجها. صارت جلساتنا عادة نتطلع إلى ممارستها بكثير من الرغبة ونستعد لها بكثير من الاهتمام طبعا دون أن نفصح ونعترف أننا نستعد. بعض أحسن ما كتبه هؤلاء ولد من رحم تلك الجلسات، وبعض أهم قراراتنا الشخصية والمهنية يجد جذوره فى نقاشاتنا. راح من راح وبقيت العادة تجدد نفسها وتجند أشخاصا متوافقين مستبعدة قدر الإمكان من ضاق صدره وقل صبره وعلا شأنه وأمره.
***
رأيتها تتجدد فى أشكال عصر لا فكاك من قوة تأثيره وهيمنته. يجتمعون على صفحات رسائل البريد الإلكترونى وصفحات الفيسبوك والواتساب. لا يتقابلون إلا لماما. أكثر اللقاءات تلخصها إشارات وتغريدات فى كلمات معدودة. لا حوار يعد له سلفا ولا تحصيل وإطلاع يسبقه ولا تعمق أو تأمل فى الردود المتبادلة. السرعة هى المعيار والمباغتة هى سر النجاح والشعبية، أو بدقة أكبر، الشعبوية. لقد أفلحت هذه الأساليب المبتكرة فيما لم تعد تفلح فيه أساليب الحشد الجماهيرى. كانت الشعبوية تعتمد على الراديو والتليفزيون قبل أن تحتل التغريدة عرش الأيديولوجية والمال والسياسة والحكم.
***
دعيت قبل أسبوع لأشارك فى دائرة حوار أقرب إلى النمط التقليدى الذى تعودت عليه. هناك تجديد لا شك فيه ولكن بما لا يمس جوهر الحوار وثراء المضمون. لمست ميلا عاما فى اتجاه الواقعية. رحبت به باعتبار أنه الوسيلة الأمثل لمناقشة أمينة وشجاعة لحال السياسة والسياسيين فى هذه الأيام، ورحبت لاعتبار آخر. أصبح من غير الممكن أو المفيد التقدم بتحليل سياسات ومواقف فى وقت تحولت فيه شبكات المعلومات إلى عناقيد حقائق وحقائق مزيفة وحقائق بديلة وحقائق تحت الصنع وحقائق مغلفة.. إلخ.
مستحيل، أو يكاد يكون من المستحيل فى ظل هكذا حال للمعلومات، أن تقع على كتاب جديد فى السياسة تنبهر بتحليله أو تثق فى المعلومات التى استند إليها. مستحيل، أو يكاد يكون فى حكم المستحيل، أن تقرأ خبرا عن، أو عرضا لدراسة أكاديمية قدمت جديدا فى ميادين العلوم السياسية وبخاصة فى ميدان العلاقات الدولية. أتصور أن هذا العجز فى نشاط الأكاديمية الأمريكية بالذات يعود إلى اعتبارات متعددة. أحد النماذج الأحدث فى هذه الاعتبارات هو الكتاب «شبه المقدس» الذى يضع ويفرض الإطار «المفهومى» إن صح التعبير للعهد الجديد فى الولايات المتحدة، عنوان الكتاب: «فن الصفقة»، لمؤلفه السيد دونالد ترامب. إذ إنه عندما تهيمن نظرية واحدة على فرع من فروع العلوم الاجتماعية وعندما تعتنق السلطة القائمة هذه النظرية، أو ترفض اعتناق أى نظرية على الإطلاق بحجة أنها «تعرف كل حاجة» أو أنها مبعوثة من السماء، يصبح التوقع المؤكد هو انحسار النظريات الأخرى أو توقف المنافسة بينها وبالتالى انهيار مستواها.
غير معقول على كل حال أن يقبل المتخصصون طويلا الخضوع لهذا الواقع إلا إذا كانت ضخامة التحولات الكبرى فى البيئة الدولية قد ضربت المجتمعات العلمية بالشلل. الآن تقف هذه الدوائر العلمية ومراكز البحث والعصف الفكرى فى كل أنحاء العالم فى انتظار جيل جديد من علماء أعمق فهما لتعقيدات مرحلة انتقالية طال أمدها أو انتظار نهاية حال الفوضى الراهنة فى السياسة الدولية، أيهما أقرب.
***
دار حوار هادئ وكان موضوعه السياسة الخارجية الأمريكية فى عهد الرئيس ترامب كما عرضها الملف الذى نشرته مجلة الشئون الخارجية التى يصدرها المجلس الأمريكى للعلاقات الخارجية. شارك الحاضرون كل بنصيب ورؤية وحماسة أضفت جميعها على الأمسية جوا من الجدية. بالإضافة إلى مداخلة ذكية من جانبه شارك صاحب الدار فى نجاح الحوار بإثارة الدفء ورفع الكلفة وتهيئة الظرف والمكان. أتمنى أن تجد نقاشات هذه الأمسية، وغيرها من الأمسيات المنتظمة، فرصتها إلى النشر على نطاق أوسع وإن بنشر خلاصات إجمالية لما دار فيها. استأذنت لأقدم عرضا موجزا لجانب واحد من بين عشرة جوانب تناولت الموضوع. يستند هذا الجانب أولا وتحديدا إلى قناعة شخصية بأن أمريكا تنحدر ولهذه القناعة ما يؤيدها على صعيد المعلومات غير الزائفة أو الأقل زيفا من غيرها. يستند أيضا إلى خشية جادة وحقيقية عندى وعند غيرى من خطورة الاطمئنان إلى عهد الرئيس ترامب ومسايرته.
***
قلتها مرارا هنا فى مصر وهناك فى أمريكا وفى الخليج ولبنان. قلت وكتبت إننا نعيش مرحلة انحدار الولايات المتحدة الأمريكية من حال القوة الدولية الأعظم إلى حال أو موقع أقل عظمة. يأخذ الانحدار أشكالا شتى ويحدث بسرعات مختلفة ويركز على مجالات بعينها. لم يتسع وقت الحوار لتفاصيل كان يمكن للدخول فيها أن يلتهم جل ساعات الأمسية. أهم المجالات كانت البنية التحتية، الأمريكية، كالطرق والسكك الحديدية والجسور والكبارى التى تحدث عنها أوباما فى حملته الانتخابية ولم يفلح فى تحديثها ولا حتى إصلاحها خلال ولايتيه. من المظاهر أيضا الخلل النسبى المتصاعد مع مرور الوقت فى التوازن بين الصين وأمريكا فى معدلات النمو وبين روسيا وأمريكا فى معدلات النفوذ الدولى. منها أيضا والانحسار النسبى ولكن الواضح فى سمعة «الحلم الأمريكى» وسمعة أمريكا بشكل عام.
لا نستطيع ولا يجوز إهمال حقيقة أن الانحدار العام أصاب فيما أصاب، أو تسبب فى إصابة، مؤسسات التعليم العالى. كان لهذا الانحدار الفضل فى انتعاش العنصرية والوطنية اليمينية وكل ما من شأنه توسيع فجوة الاستقطاب فى المجتمع الأمريكى. أضف إلى كل ما سبق حال عدم الثقة المتزايدة بين قطاعات واسعة من الشعب من ناحية والنخب الحاكمة بما فيها أو على رأسها مجلسى الكونجرس والحزبين من ناحية أخرى.
****
قلتها أيضا وكتبت عنها وأكررها الآن بكل الاقتناع الممكن. قلت إن أشد مراحل التاريخ الإنسانى، وربما الحيوانى، ضراوة هى مرحلة انحدار الأقوى معترفا بهذا السقوط والانحسار أو ناكرا له. لا داعى هنا لسرد وقائع سقوط الإمبراطوريات العظمى بدءا بالإمبراطورية الرومانية وتوقفا مؤقتا عند الإمبراطورية البريطانية. أهمية مثال بريطانيا العظمى إلى جانب أنه الأحدث فى ذاكرتنا فضلا عن أن مصر كانت الضحية النموذج لنهاية إحدى أهم وأطول عصر إمبراطورى فى التاريخ، إنه المثال الأقرب حضاريا إلى الحالة الأمريكية الراهنة. فى رأيى كانت الحملة على مصر فيما صارت تعرف بحرب السويس عملا طائشا لا تقدم عليه إلا قيادة حاكمة ترفض الاعتراف بانحسار إمبراطوريتها وتراجع مكانتها الدولية. أليس هذا تقريبا ما فعلته وللأسباب نفسها حكومة الرئيس جورج بوش الابن بحملته العسكرية المشئومة على العراق، ألم يكن ما فعله بيل كلينتون وفعله فى آخر المطاف الرئيس باراك أوباما. كيف ننسى أن هذا الأخير اتخذ قرارا تاريخيا بالتحول بكل الاهتمام الأمريكى نحو آسيا، بمعنى آخر، الهروب من الاهتمام بأوروبا «أس المشاكل» وجوهر جميع الحروب العالمية الحديثة، ومن الشرق الأوسط، مرقد الثورات والغليان الماضى والقادم. من وجهة نظرى، كانت حرب العراق الضوء الكاشف لحقيقة الانحدار الأمريكى ومداه فى ذلك الحين.
***
بقى السؤال المثير، من جاء بترامب، وإلى أين سيأخذ أمريكا ويأخذنا؟

 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved