من الصين نتعلم

مصطفى كامل السيد
مصطفى كامل السيد

آخر تحديث: الأحد 29 مارس 2020 - 9:50 م بتوقيت القاهرة

لم أكن أتوقع هذا النجاح السريع نسبيا للصين فى النضال ضد وباء فيروس كورونا الخطير، الذى فاجأ العالم على حين غرة ودفع كبار المتخصصين فى علم الأوبئة إلى الانهماك فى اكتشاف علاج ناجع له، إلا أن معرفتى بتاريخ الصين الحديث وزياراتى لها جعلتنى لا أندهش كثيرا لهذا الإنجاز المبهر، ولكنها تدعونى إلى أن أتأمل بعض الدروس التى يمكن لنا أن نتعلمها من سجلها فى إرساء دعائم نهضتها الحديثة، وقفزتها الهائلة من أوضاع دولة شبه مستعمرة منذ القرن التاسع عشر وحتى نهاية أربعينيات القرن الماضى، عانت خلالها من المهانة على يد الدول الغربية واليابان، فحاربتها بريطانيا «المتحضرة» ثلاث سنوات ١٨٣٩ــ١٨٤٢ لتفرض عليها تجارة الأفيون، وتمتعت الجاليات الغربية بامتيازات وبتعال على الصينيين إلى الحد الذى كانت توضع فيه على المطاعم التى يرتادونها لافتة «ممنوع دخول الكلاب والصينيين». انتقلت الصين من هذه الأوضاع نقلة أقرب إلى المعجزة، فهى تستعد الآن لاقتلاع المكانة الأولى على قمة الاقتصاد العالمى من الولايات المتحدة، وتتحول إلى أن تكون منارة العلم والتكنولوجيا وضابط إيقاع النمو على الصعيد الدولى، بينما يجوب ملايين من مواطنيها العالم ليس فقط بحثا عن فرص للاستثمار والتجارة ولكن كسياح شغوفين بشراء أحدث ما تجود به مراكز التسويق الأوروبية والأمريكية وأغلاها من ملابس وعطور وساعات، حسبما شهدت بنفسى فى كثير من مدن هذه المراكز.
ولكن هل يمكن أن ننقل التجربة الصينية فى هذا النهوض؟ طبعا تجربة كل شعب وليدة ظروفه الخاصة. نتاج لتاريخه وثقافته وأحوال شعبه ونظامه السياسى ونوعية قياداته، وقدرتها على أن تفهم العالم وأن تحدد استراتيجياتها للمدى البعيد، وأن تتحلى بالصبر والمثابرة وهى تسعى لتنفيذ هذه الاستراتيجيات. وفى تاريخ الصين وثقافتها سمات خاصة ربما تنفرد ببعضها، أو تشترك فى بعضها مع أمم أخرى من ذوات الحضارات العريقة، ولكنها مع سمات أخرى فى حاضرها تصبح مزيجا فريدا قلما يكون هناك مثيل له بين دول العالم الأخرى، كبيرها أو صغيرها.
ميراث الماضى
لا أنكر أنى مأخوذ منذ زمن يعود إلى بضعة عقود بسمات خاصة فى حضارة الصين القديمة، منها فخر الصينيين بوطنهم من بين كل شعوب العالم، فكلمة الصين تعنى فى لغة هذا الشعب مركز العالم، ومن ثم فمن يعيشون خارج حدود الصين، فى نظرهم، هم أقل تحضرا ولا عجب أن تلك كانت فكرة الصينيين عن بلادهم. فهم عرفوا بعض الاختراعات التى صنعت العالم الحديث، ولكنهم استخدموها لإسعاد البشر. عرفوا مثلا قوة البارود، ولكنهم استخدموها فى صنع الألعاب النارية، وعرفوا كيف يخدرون المرضى لتلقى العلاج، وذلك قبل أن يعرف الأوروبيون ذلك بقرون، كما اشتهر طبهم الشعبى بالعلاج بالإبر، وهو ما شاع منذ أواخر القرن الماضى فى أرقى المدن الأوروبية وانتقل منها إلى الحواضر الكبرى فى أنحاء العالم الأخرى. وكانوا يشترطون منذ القرن التاسع الميلادى على من يريد أن يلتحق بالخدمة الحكومية أن يكون ملما بالقراءة والكتابة وعلم الحساب وبعض مبادئ الفلسفة. بل لقد اخترعوا فن الطباعة فى القرن الثامن الميلادى قبل أوروبا بخمسة قرون. ورثت الصين المعاصرة هذا التراث الناصع وورثت معه كلا من فلسفة كونفوشيوس التى تدعو إلى إصلاح المجتمع على أساس من احترام التراتبية والسلطة، وكذلك فلسفة تاو التى تحض على احترام الطبيعة، وقد طبعت تعاليم كونفوشيوس نموذج التنمية السلطوى فى الصين، وربما استفاق الصينيون الآن إلى حكمة تاو وهم يجاهدون للحد من التلوث فى مدنهم. والحضارة الصينية ليست هى فقط نتاج حكمائها المتعلمين، ولكن هى أيضا نتاج تقاليدها الشعبية والتى دعت جماهيرها من الفلاحين إلى أن تثور بين حين وآخر سخطا على ظروف عيشهم مما كان يستدعى إعادة توزيع للأراضى الزراعية. هذه التقاليد الثورية هى التى عول عليها ماوتسى تونج وهو يجد بين الفلاحين الصينيين النصير الأول للثورة التى وضعت الصين على طريق بناء نهضتها المعاصرة.
هل من دروس؟
تجربة النهضة الصينية لا تنفصل عن هذا الميراث التاريخى، ولذلك سيكون من العبث محاولة تقليد النموذج الصينى فى التنمية، رغم أن الحكومة الصينية تبشر بهذا النموذج كبديل لنموذج التنمية الليبرالى الغربى، ليس فقط لأن هذا النموذج هو وليد ظروف الصين الخاصة والفريدة، ولكن لأن هذا النموذج نفسه قد تطور، بالتعلم من الآخرين، مثل الاتحاد السوفيتى فى السنوات العشر الأولى لجمهورية الصين الشعبية، وبالتعلم الذاتى من فشل تجربة القفزة الكبرى إلى الأمام ١٩٥٨ــ١٩٦١، والثورة الثقافية ١٩٦٦ــ١٩٦٩، وباقتباس أفكار التخطيط التأشيرى واقتصاد السوق والابتكارات التكنولوجية من الدول الغربية. ولذلك فما كان مفيدا للصين فى مرحلة رأى قادتها عبر خلافات ومناقشات بل وصراعات بينهم أنه لم يعد مفيدا فى مرحلة لاحقة. ولعله مما يدعو إلى السخرية أن بعض القادة الأفارقة بلغ من فرط إعجابهم بالنموذج الصينى فى المرحلة الماوية أنهم قلدوا نمط زى ماوتسى تونج، وأصبح هو نموذج رداء قادة إفريقيين كثيرين ومن توجهات متباينة من موبوتو حليف الغرب فى الكونغو ــ زائير، وكينيث كاوندا فى زامبيا، وموديبو كيتا فى مالى وجوليوس نيريرى فى تنزانيا، ودعا الأخيران إلى ما كانا يعتبرانه اشتراكية إفريقية.
ومع ذلك إذا كان هناك من يريد أن يتعلم من تجربة النهضة الصينية، فتلك فى رأى الكاتب بعض الدروس التى يمكن اقتباسها دونما أى ادعاء بأن كل التجربة قابلة للاستزراع فى بيئة مغايرة للبيئة التى تطورت فيها.
أول هذه الدروس هى احترام إنجازات فترات حكم سابقة ووضعها فى إطارها الصحيح، وعدم التنكر لما زرعته من بذور نضجت فى مراحل لاحقة. فعلى الرغم من أن تجربة الإصلاح فى الصين والتى بدأت فى ١٩٧٨ بقيادة دنج هشياو بنج والذى دعا إلى التعلم من اقتصاد السوق فى الغرب تحت دعوى «أن لون القطة لا يهم طالما أنها تستطيع اصطياد الفئران» تتناقض مع أفكار ماوتسى تونج الذى نادى بالانتقال مباشرة من اقتصاد الصين الذى كان قد خرج لتوه من مرحلة الإقطاع والنمو الرأسمالى المحدود إلى الشيوعية ودون الانتظار لاستكمال بناء الاشتراكية، إلا أن قادة الصين الذين خلفوا بنج يؤكدون على القيمة الكبرى لجهود الفترة الماوية من حيث إقامة هياكل الدولة الحديثة، وتشييد الحكم المركزى، وتحقيق الإصلاح الزراعى، وبناء قاعدة اقتصادية مكنتهم من الانطلاق على طريق التنمية السريعة. ومازال الذين يطوفون بميدان تيانانمن يشاهدون صورة كبيرة لمؤسس الصين الحديثة يطل عليهم فى وسط العاصمة بكين من على الجدار الخارجى للمدينة المحرمة مقر الحكم التقليدى لقادة الصين.
وثانى هذه الدروس التحديد الصحيح لغايات استراتيجيات التنمية بعيدا عن المشروعات المظهرية التى لا تضيف إلى القدرة الإنتاجية للبلاد ولا تحسن من مستوى التنمية البشرية من تعليم ومهارات وصحة وغذاء وسكن. فحتى دعوة ماوتسى تونج إلى مضاعفة معدلات النمو والتقريب بين المدينة والريف وتطعيم العمل الذهنى بتجربة العمل اليدوى ونقل الصناعة للريف هى أفكار تسهم فى تحقيق التنمية بمعناها الصحيح، حتى وإن ثبت أن ترجمتها إلى سياسات تم بأساليب غير واقعية. وبكل تأكيد الغايات التى استهدفتها إصلاحات دنج هشياو بنج والتى سميت بالتحديثات الأربعة وهى تحديث العلم والتكنولوجيا والصناعة والزراعة والدفاع الوطنى هى تحديد دقيق لما يحقق النهضة، فلا يمكن أن تقوم للنهضة الوطنية قائمة ما لم تستند على قاعدة وطيدة من العلم الذى بدوره يرسم معالم نقلة كيفية فى أوضاع الزراعة والصناعة توفر حاجات المواطنين وتكسب للاقتصاد الوطنى مساحة مهمة فى السوق العالمية كما أنه بدون هذه القاعدة العلمية والتكنولوجية الصناعية والزراعية لا يمكن لدولة أن تضمن تطوير قدراتها الدفاعية على نحو يغنيها عن الحاجة للتعويل على قوى أخرى للدفاع عنها أو لتأمين هذه القدرات.
ثالث هذه الدروس هو الأولوية المعطاة لدعم البحث العلمى وتطوير التكنولوجيات فى جميع المجالات وجعله أساسا لصنع السياسات مع إيلاء أهمية خاصة لتكنولوجيات المستقبل مثل الذكاء الصناعى والروبوتات والجيل الخامس من الإنترنت وغيرها. الصين فى الوقت الحاضر هى الدولة الأولى فى العالم من حيث حجم الإنفاق على البحث العلمى والتكنولوجى وخصوصا الأبحاث الأساسية، والذى وصل فى سنة ٢٠١٩ إلى ٢٩١ مليار دولار مقتربا من ٢,٥٪ من ناتجها المحلى الإجمالى. صحيح أن هذه النسبة هى أقل مما تخصصه دول مثل اليابان أو فنلندا أو إسرائيل، ولكن حجم الإنفاق نفسه يتفوق حتى على الولايات المتحدة الأمريكية. وليست المسألة هى فقط حجم الإنفاق ولكن الاستقلال الوظيفى الذى تتمتع به المؤسسات البحثية والجامعية وحريتها فى التواصل مع المراكز المماثلة فى الدول الأجنبية. النتيجة واضحة فى عدد الأبحاث التى ينشرها باحثون صينيون فى دوريات علمية ذات مصداقية دولية والتى تأتى من حيث عددها تالية لعدد الأبحاث التى ينشرها علماء أمريكيون. والحرب التى تشنها الولايات المتحدة الأمريكية على الصادرات وخدمات التكنولوجيا المتقدمة التى تطرحها الصين على الدول الغربية ذاتها هى خير دليل على نجاح الصين فى هذا المضمار.
ورابع هذه الدروس هو القدرة الهائلة على تعبئة المدخرات والاستثمارات المحلية لدفع النمو الاقتصادى ولتحقيق غايات استراتيجية التحديثات الأربعة. ووفقا لبيانات البنك الدولى عبأت الصين فى سنة ٢٠١٨ حوالى ٤٦٪ من ناتجها المحلى الإجمالى للاستثمار بينما بلغت هذه النسبة فى مصر ما لا يتجاوز ١٤٪ فى نفس السنة. النسبة التى تحققها الصين هى من الأعلى على مستوى العالم. يجب أن نضيف لذلك حجم الاستثمارات الأجنبية الهائل الذى تجتذبه الصين. ولا شك أن هذا المستوى النادر من القدرة على تعبئة الموارد المحلية هو أحد العوامل التى تفسر قدرة الصين على تحقيق معدلات تنمية عالية كانت تتجاوز ١٠٪ سنويا فى سنوات الإصلاح، تباطأت فى السنوات الأخيرة لأسباب يعزوها المراقبون لأوضاع الاقتصاد الصينى إلى أنه يمر بتحولات عميقة فى طريقه للانتقال إلى مستويات أكثر تقدما يعول فيها على تكثيف المعرفة ورأس المال بدلا من التعويل على كثافة العمالة.
الدروس التى تعطيها الصين للعالم لا تنتهى، وقد آثرت التركيز على تلك الدروس القابلة للتعلم، ولا ترتبط بالضرورة بالثقافة الصينية ولا بطبيعة نظامها السياسى.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved