قراءة شعرية وشاعرية فى لغة الغربة اليابسة

مواقع عربية
مواقع عربية

آخر تحديث: الإثنين 29 مارس 2021 - 7:38 م بتوقيت القاهرة

نشر موقع رصيف 22 مقالا للكاتبة زينة قنواتى، تصف فيه حالتها فى الغربة بعد مغادرتها سوريا بسبب الحرب الضارية، وكيف أنها وجدت سلوانها فى اللغة العربية بحثا عن الرغبة فى الحياة مرة أخرى فى غربتها الجديدة... نعرض منه ما يلى.
أتقفّى آثار اللغة العربية فى مكان لا أفهمه. وأقلب جميع المفردات إلى معان أحفظها، وأقول فى نفسى ولغربتى، كما يقول الثعالبى فى كتاب «فقه اللغة وسِر العربية»: «كلّ ما علاكَ فأظلّك فهو سماء».
هل يعتبر هذا سقفا إذن؟ وهل سقف بيت مثقوب بمسامير الذاكرة، يعتبر سماء؟. لسمائى الملبدة إذن ثقوب للذاكرة، للغربة.
يقول الثعالبى أيضا: «البَرْزَخُ ما بَيْنَ كُلِّ شَيْئَين». فهل بينى وبين هذه السماء برزخ، وبينى وبين الشام برزخ، وبينى وبين لغتى، عالم آخر لا منتهٍ؟
يفرقنى البرزخ إذن عن كل ما لم ألتصق به. وأنا لم أستطع أن أبقى، ولهذا رحلت.
وأول الرحيل دمع وشوق وتليهما غربة. والغربة تتمثل بالأرض القَفر، وبالدار الخاوية، ولربما أيضا بالطَرْف المغرورق بالدمع. وتأتى غربتى فى يوم خرجت فيه من منزلى الأول، ولم أعلم أننى لن أعود إليه بعد ذلك.
أن تصبح غريبا عن مكان لأنك فارقته، فهو تغرّب، وأن يستغرب الناس لقاءك بعد سنوات فى مكان كان يظلّك فهى غربة، وأن تُغرِب وجهك عما لا يمكنك أن تنقذه وعمّن يحتاجك، لأنك لن تصل إليه فى الوقت المناسب، فذلك هو البرزخ بينك وبين من تحب.
نحن لم نرحل فُرادى، ولكننا رحلنا بسبب حرب ضارية. كنا مهددين بالموت، بالفقدان، بالاختفاء، بالتغييب وبالغياب. فاخترنا الحياة واخترنا غربتنا، فقدّمنا لمن بقوا هناك، وحدتنا ووحدتهم.
وبحثا عن الرغد، وهو ما لأن من العيش، اخترنا هذه المنافى القاحلة من أحبتنا.
البحث فى الشتات عن الكثير من الحياة
بحثت عن الكثير من الحياة والرغبة، فنحن منذ رحيلنا قد غرقنا فى بحر هائج من الهموم، وعثرت أثناء بحثى عن الحياة على كل الكلمات التى تساعدنى لأفهم مشاعرى، فتعمقت أكثر فى لغتى العربية.
ولم يأتِ هذا من رغبتى بتقديس اللغة أو انعزالى عن لغة المحيط الجديد، ولكن لأنها ببساطة اللغة الأقدر على التعبير والتوضيح بالنسبة لى.
وجدت أثناء بحثى، أن الشعور بالغربة مرتبط ارتباطا عميقا بالشُّح والقلّة فى كل شىء. فشحّ الأصدقاء، قلة الموارد وانقطاع الأحبة، جميعها تشعرنا بالغربة.
الثعالبى: «الضَففُ هو قلّة العيش»، وأعتقد أن الغربة فى الشعور تعادل قلّة الرغبة بالحياة وعدم الاكتراث بمتاعها، ما يدفع الباحثين عن السّكينة إلى الانعتاق نحو كل ما يبعدهم عن الواقع، وعن القسوة التى تولّد فى مخالجهم قلة العيش وشحّ السكينة، وإن كان ذلك عبر الغرق فى عالم موازٍ فاقد للوعى الكامل.
ترتبط الغربة بالوحدة، ولكنها تختلف عن العزلة التى يختارها الإنسان طوعا ليخلو بنفسه، فالخلوة حلوة والغربة مرّة.
ولهذا يمكن أن يشترك مجموعة من الأصدقاء بشعور الغربة معا، حتى فى سلواهم، فالغربة ترتبط بالكثير من المعانى ولا تعنى الوحدة فقط.
وفى التفكير الأعمق، أردت أن أعرف كيف نتخلص من غربتنا عن طريق المعانى، وهل الأُلفة تعاكس فى المعنى الغربة؟
الألفة هى كل ما نعرفه وننتظره، حتى وإن لم نكن بالضرورة نحبه. فانتظارنا للزهر فى أول الربيع ولليمون فى آخره، يعنى استقرارنا وتطلعنا إلى الأمل. وفى ألفة منازلنا وروائحنا وطعامنا وشرابنا ذاكرة ماضية، ولكنها حاضرة عن ما ومن أحببنا، وكل ذلك نصنعه بالأُلفة لننفى غربتنا.
لكن يظل اللقاء بالأحبة هاجسا ملحّا، حتى نلتقى بهم فى غربتنا، فيتفكك الشعور المكتمل، ونشعر بانتقاص واضح لسعادة كنا نحلم بها، وندرك مع مرور الوقت أننا نسعى لما هو مألوف لنا كى ينفى غربتنا. فوجودنا هناك فى زمن ماضٍ هو المألوف، وليس وجودهم معنا فى مكان لا زال يعدّ غريبا وغير مألوف للذاكرة.
فى الألم والعِلّة وأوصافهما
كلما استغرقت أكثر فى البحث عن المعانى التى أشعر بها، أجد أن اللغة بُنيت بصلافة، وأن الشعور حوّلها إلى لغة شاعرية. وهل الشعراء سوى أولئك الذين يحولون جمود الواقع إلى شعور محسوس ومقروء؟
يقال عمن يصيبه مرضٍ: «عليل ثم سقيم»، وأما إذا اشتدّ المرض فهو «حَرِضٌ، بمعنى أنه لا حيٌّ فيُرجى، ولا مَيتٌ فَيُنسى».
لا يسعنى أن أفكر بدمشق دون أن تبارحنى هذه الفكرة. وأسمع صوتا عميقا بالعامية يقول: «الحى أبقى من الميت». وهل بقيت سوريا حية فينا أم ميتة؟ لا كلام ينصفها سوى أنها لا تسمع الرجاء فتجيبه، ولا تتوارى عن القلب فتغيب فيه.
حاضرة حضور الحى، غائبة غياب الميت.
وتمتلئ عيناى بالمهَجِ إذ استغرق فى أفكارى: «المُهجة دم القلب، أما الجسد فهو الدم إذا أيبَس». فلا أكفّ عن امتلاك اللغة أكثر، وتدهشنى أصول الكلمات ومعانيها، وكيف استخدمها لسان العرب.
أتوقف عن البحث عند حد أصنعه كى أحمى نفسى وشعورى، فالاستغراق يدفع بى نحو أعماق الكلمات ونحو أعماق شعورى. فيفصلنى عن الواقع الناطق باللغة التشيكية حيث أعيش، ويصيبنى بالسكتة.
«السكتة أن يكون الإنسان كأنه مُلقى كالنائم، يغطّ من غير نوم، ولا يحسّ إذا جُسَّ». وأنا لا أريد أن أفقد الإحساس لاشتداده، فما زاد عن حده طفا على كل ما حوله، وأنا إذ أبحث عن المعنى أبحث عن سكينتى وسُكناى.
والسّكينة، مصدرها السَكَن، والمرأة السكينة هى الخفيفة، ظريفة الروح، والسكينة هى الطمأنينة.
الطمأنينة هى ما أرنو إليه فى غربتى، وما أرجوه لكل من لهم من هذا المنفى نصيب.

النص الأصلى:

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved