الاقتصاد المصري.. ونبوءة يوسف
خالد صقر
آخر تحديث:
الجمعة 29 مارس 2024 - 7:25 م
بتوقيت القاهرة
تعرض الاقتصاد المصرى منذ قديم الأزل لموجات متعاقبة من السنوات السمان تتبعها سنوات عجاف. وقد نجح أجدادنا مرات عديدة فى كسر هذه الحلقة أو على الأقل التخفيف من حدتها. فهل ينجح برنامج الإصلاح الاقتصادى هذه المرة فى تمكيننا من الانطلاق إلى آفاق أفضل؟ وكيف نستعيد السيطرة على مقدراتنا الاقتصادية؟.
• • •
لقد تحددت هذه الموجات فى البداية بدورات فيضان وجفاف النيل. وتم اجتيازها بدرجات مختلفة من النجاح بالإدارة الحكيمة لحجم إنفاقنا وقت الازدهار لندخر استعدادا لسنوات الانحسار. كما تم تنفيذ استثمارات مجدية فى إنشاء القناطر انتهاءً بالسد العالى. كذلك كانت هناك تجارب جيدة لتنويع اقتصادنا من خلال تجارب التصنيع بريادة طلعت حرب ثم عزيز صدقى. وبعد ذلك وقعنا فى أسر المرحلة النفطية فزاد اعتمادنا منذ السبعينيات على إيرادات تصديره وعلى إيراداتنا من تحويلات مواطنينا فى الخارج وقناة السويس والسياحة والاستثمارات والمعونات الخليجية والغربية وجميعها مرتبط بشكل أو بآخر بسعر البترول وتقلباته. وأصبنا بما يعرف اقتصاديا بالمرض الهولندى والذى يعنى انحسار دور الصناعة والزراعة فى مواجهة هذه الإيرادات الريعية، ولتفصيل ذلك حديث آخر.
الخلاصة أن اقتصادنا أصبح أكثر انكشافا لإيرادات يمكن أن تتعرض لتقلبات خارجة عن إرادتنا. ولكننا ظللنا مسئولين عن الاستمرار فى هذا الانكشاف، بل وزدنا منه ومن حدة تأرجح دورتنا الاقتصادية ووقوعنا فى دوامة النبوءة بسبب النمط الذى تبنيناه فى الإصلاح الاقتصادى منذ الثمانينيات. فما هو هذا النمط السلبى وما هو سبيل الفكاك منه والانطلاق إلى آفاق اقتصادية أفضل حالا وأكثر استدامة؟
• • •
من الواضح لمن يتابع تطبيقنا لسياسات الإصلاح الاقتصادى هو توقفنا كل مرة عند بشائر المرحلة الأولى والتوقف عندها قبل استكمال معالجة أسس مشاكلنا وتمكين مواطنينا من زيادة إنتاجهم الصناعى والزراعى والمعلوماتى. فكما أن أى علاج يبدأ بتثبيت حالة الشخص المريض، يبدأ الإصلاح الاقتصادى أيضا بالتثبيت النقدى والمالى لتحقيق الاستقرار وتمهيد الطريق للعلاج الشافى من المشاكل الهيكلية التى تواجه إنتاجنا الحقيقى من السلع والخدمات وقدرتنا على خلق الوظائف المثمرة خاصة لشبابنا الصاعد بدلا من أن ندفعه لأمواج البحر المتلاطمة أو براثن التطرف زارعين بأنفسنا جذور التزمت والإرهاب.
عادة ما تستلزم مرحلة التثبيت اتخاذ إجراءات التشديد النقدى. فيقوم البنك المركزى برفع سعر الفائدة للسيطرة على التضخم، ولاستعادة مكانة الجنيه كمصدر للقيمة مما يؤدى إلى وقف الانهيار فى سعر الصرف. وقد يبدو، فى بادئ الأمر، أن سعر الصرف استقر عند مستوى أسوأ مما كان عليه. ويكون هذا الأمر صحيحا فقط عند مقارنة سعر الصرف الرسمى القديم الذى لم يعد فى قدرة البنوك توفير الدولار به لتمويل حتى أكثر الواردات ضرورة. أما المقارنة الواقعية فيجب أن تكون بسعر السوق الموازية الأكثر تدنيا. وهنا يتضح نجاح البنك المركزى بقراراته الأخيرة، كما نجح فى نفس مرحلة الإصلاح فى الدورات السابقة، فى وقف الانهيار النقدى الذى لا تحمد عقباه.
ربما كان من الأفضل اتخاذ هذه القرارات فى وقت مبكر قبل الوصول إلى مرحلة الخطر التى وصلنا إليها فى هذه الدورة، والتى تعدت فى خطورتها ما وصلنا إليه فى الدورات السابقة. فالتضخم ونقص السلع الرئيسية وانهيار سعر الصرف وصلوا جميعا إلى مستويات لم نعهدها فى تاريخنا الحديث. وربما كان التردد فى الإسراع بهذه القرارات نابع من الخوف من الأثر السلبى لزيادة سعر الفائدة على تكلفة خدمة الدين العام وعلى النمو الاقتصادى فى الأجل القصير. ولكن، وكما أشار محافظ البنك المركزى فى مؤتمره الصحفى الأخير، فإن هذه الآثار السلبية وقتية وأقل ضررا بكثير من توقف الواردات الأساسية ومن انهيار الثقة فى عملتنا الوطنية حتى من جانب مواطنينا فى الداخل والخارج.
والواقع، كما أثبتت التطورات الأخيرة، هو أن السياسات السليمة هى التى تجلب التدفقات المالية وليس العكس. فتأخرنا فى الإصلاح النقدى أدى لانخفاض تحويلات العاملين فى الخارج العام الماضى بما يزيد على الإيراد الصافى من مشروع رأس الحكمة فى عامه الأول، فساهم هذا التأخر فى انخفاض قيمة الجنيه. ويشير هذا إلى أن تأخير الإصلاح حتى وصول الإمدادات لا يفيد بل التعجيل به هو الذى يجلب المدد ويقلل الخسائر. والأكثر خطورة هو أن ترك العنان لتدهور أكبر فى قيمة الجنيه عما وصل إليه الأمر فى السوق الموازية كان سيؤدى لزيادة هائلة فى قيمة الالتزامات الدولارية الضخمة للحكومة وللبنوك. وكلما التزم البنك المركزى بسياسته الجديدة، ودعمته الحكومة بالامتناع عن أى إنفاق غير ضرورى وعاجل وأوقفت التصريحات المتضاربة، كلما زادت مصداقيته فى مواجهة المضاربات التى قد تراهن على لينه. وكلما زادت هذه المصداقية كلما أمكن خفض سعر الفائدة بسرعة أكبر واستقر سعر الصرف حتى تقل بقدر الإمكان التداعيات الانكماشية لهذا التثبيت الضرورى.
• • •
الأمر المهم تجنبه الآن هو الوقوع فى أخطاء نمطنا السابق فى الإصلاح بأن يفعل فينا أى انتعاش وقتى فعل المخدر. فاستعادة الثقة فى الجنيه، وما يصاحبها من تدفقات مالية واستثمارات عقارية أجنبية ومساعدات خارجية لدعم خطواتنا الإصلاحية الأولى، شجعتنا فى الماضى على عدم المضى فى الخطوات التالية من الإصلاح التى تضمن الاستدامة. وهذه هى الإصلاحات الهيكلية التى تهدف لتحسين إنتاجنا وصادراتنا وإعادة توجيه إنفاقنا لما يفيد بدلا لما يضر.
فيجب أن يتم ترشيد المعوقات الإدارية التى تواجه المواطنين والقطاع الخاص الصغير منه قبل الكبير فى استخراج رخص إنشاء المشاريع وتشغيلها والحصول على الأراضى وزيادة العمالة وتشجيع المنافسة العادلة وتحسين التقاضى والشفافية وتوفير المعلومات. ويجب أن تلتزم الجهات العامة بدراسات الجدوى المحكمة والمعلنة فى كل مشاريعها والتى يجب ألا تزاحم القطاع الخاص بل تشجعه وتكمله. كذلك يجب التوقف عن فرض رسوم جديدة وأن نزيد من إنفاقنا على التعليم والصحة والتحويلات النقدية للفقراء مع تمويل ذلك بقدر الإمكان من زيادة الضرائب على السلع غير الضرورية. وأخيرا وليس آخرا، يجب أن يراعى التحرك الضرورى فى ترشيد الدعم معايير العدالة الاجتماعية وأن نوجه كل توفير فيه وبشكل واضح لتحقيق فائدة فورية للمواطنين والمواطنات كتوفير مواصلات عامة كريمة وكافية.
والأمل هو أن نستفيد من تجاربنا الماضية البعيدة والقريبة ونتبنى رؤية اقتصادية نابعة من الإرادة الوطنية تبتعد بنا عن نمط الإصلاح القديم ونطوّع الدعم الدولى بشكل يحررنا من قيود الديون ومن الدوران فى فلك النبوءة حتى ننطلق لمستقبل أفضل لشعبنا.