أمين بسيونى.. الإذاعى الرصين

إيهاب الملاح
إيهاب الملاح

آخر تحديث: الجمعة 29 أبريل 2016 - 9:10 م بتوقيت القاهرة

بعدما انتهيت من كتابة هذا المقال عن ذكرياتى مع برنامج (كتاب عربى علم العالم) وقبل الدفع به للنشر، علمت بوفاة الإذاعى القدير أمين بسيونى (عن عمر ناهز الثالثة والثمانين)، أحد أعمدة الإذاعة المصرية فى عصرها الذهبى، وأحد كبار نجومها من أصحاب الأصوات التى لا تنسى والأداءات الرصينة الواثقة؛ فضلا عن ارتباط صوته بواحد من أهم وأروع برامج الإذاعة المصرية وكنوزها التى لا تقدر بمال.. أقصد برنامج «كتاب عربى علم العالم»، الذى كان أحد البوابات السحرية لاكتساب ثقافة ممتازة عن تراثنا العربى القديم فى الأدب والعلوم والفنون والآداب..

كل من أسعده حظه من أبناء جيلى، ممن تفتحت آذانهم على سماع إذاعة البرنامج العام فى الثمانينيات والتسعينيات؛ وسعد بقضاء أوقات خالصة من المتعة والجمال والثقافة الرفيعة مع برامج الإذاعة (فى وقت كانت الإذاعة بصفة عامة تشهد منافسة رهيبة مع التليفزيون وتراجعت أدوارها بكل تأكيد، لكن بفضل هؤلاء الرجال الكبار من نجوم الإذاعة فى عصرها الذهبى وبرامجهم التنويرية التثقيفية الممتعة ظلت الإذاعة محتفظة إلى حد كبير بجاذبية لا تقاوم ورونق متجدد لا يخبو مهما مرت الأعوام).

كان أمين بسيونى (أحد نجوم الإذاعة المصرية فى عصرها الذهبى بلا شك) من هؤلاء الكبار الذين يأسرون روحك ووجدانك بمجرد سماع صوتهم عبر أمواج الأثير، لا أشك لحظة أن عددا كبيرا من جيلى ممن تمنوا أن يكونوا مذيعين كان مثلهم الأعلى «إذاعيا» و«صوتيا» هو أمين بسيونى، جنبا إلى جنب أصوات: صفية زكى المهندس، فهمى عمر، حلمى البلك، عمر بطيشة، حمدى الكنيسى، إيناس جوهر، عمر بطيشة، نادية صالح، ومن سبقهم أيضا من الرعيل الأول والثانى من أبناء الإذاعة المصرية وإعلامييها الكبار.

أما شهرته الأكبر والأوسع فكانت ارتباطه بواحد من برامج الإذاعة فى الزمن الجميل «كتاب عربى علم العالم»؛ برنامج لعب أخطر الأدوار وأهمها فى تشكيل ثقافة وتكوين معرفة أجيال بكاملها؛ برنامج نجح ببساطة فى أداء أدوار ومهام أخفقت مؤسسات كاملة فى القيام بها رغم رصد الملايين لتحقيق ذلك دون جدوى؛ وأقصد تلك الغاية التثقيفية الرائعة التى كانت تستهدف قطاعات من الشباب ما بين الثانية عشرة وحتى العشرين وما فوقها للتعرف على صفحات زاهرة من تاريخنا وتراثنا القديم.

وفى ظنى ما كان لهذا البرنامج الجميل أن يحقق ما حققه من شهرة ورواج منذ ظهوره الأول، إلا بفضل عدة عوامل يأتى على رأسها ارتباطه بصوت أمين بسيونى الرخيم، الهادئ، الواثق، الواضح النبرات، كنت أستمع بشغف شديد ومتعة حقيقية لحلقات هذا البرنامج الممتع، الذى شدنى إليه صوت أمين بسيونى، ثم بفضل أداء عمالقة الأداء الدرامى والإذاعة من نجوم الدراما المصرية.

لا يمكن أن أنسى هذا البرنامج العظيم؛ وأحد كنوز الإذاعة المصرية الرائعة، وكم تمنيت أن تجمع حلقاته على إسطوانات (DVD) وتطرح للبيع وتكون بين أيدى الجمهور، يفيدون منه ويستمعون إليه ويتعرفون على مادة إذاعية وثقافية وفنية رائقة، كان عمالقة الدراما المصرية يشتركون بالأداء التمثيلى فى حلقات هذا البرنامج؛ مثل: جلال الشرقاوى، محمود مرسى، مديحة حمدى، مدحت مرسى، سهير المرشدى، نادية رشاد، أشرف عبدالغفور، محمد وفيق، محمود زكى، عادل الطوبجى، يسرية الحكيم، إسماعيل محمود، وآخرون.

فكرة البرنامج ببساطة تقوم على استعراض سيرة كتاب من التراث العربى فى الآداب أو العلوم أو الفنون، يكتبها فوزى خضر، ويخرجها مدحت زكى، ويرويها الإذاعى أمين بسيونى بصوته الرخيم العميق المؤثر، يستهل الحلقة بالعبارة الشهيرة «رحلة مع مشاعل الحضارة العربية التى أضاءت جنبات العالم»، ويقدم لها بمعلومات غاية البساطة والروعة عن الكتاب وصاحبه، ويستعرض طرفا من سيرة هذا العالم أو الفنان أو الجغرافى أو المؤرخ أو الفقيه الذى تتناوله الحلقة، وأهمية كتابه وأثره، كل ذلك بلغة جميلة واضحة ونبرات ساطعة بالغة القوة والإحكام.

ثم يبدأ الأداء الدرامى الذى يجسد جوانب من سيرة مؤلف الكتاب، فتنتقل بخيالك بين المراكز الحضارية الإسلامية الزاهرة فى القرون الثمانية الأولى للهجرة؛ من مكة والمدينة إلى دمشق وحلب، ومن الكوفة والبصرة إلى مرو وخراسان.. تسافر إلى صفد وسمرقند وبخارى وبلخ وشيراز وأصفهان.. تجول فى القاهرة والقيروان وفاس وغرناطة وقرطبة.. بآلة زمن الإذاعة تعيش سحر بغداد وأساطير الهند وحكايات الشام ومصر.

من خلال هذا البرنامج الرائع، تعرفت لأول مرة على تفاصيل رائعة وممتعة عن كتبٍ خالدة فى تراثنا العربى والإسلامى؛ «الأغانى» للأصفهانى، و«البخلاء» للجاحظ، و«العقد الفريد» لابن عبدربه الأندلسى، و«معجم البلدان» لياقوت الحموى، و«زهر الآداب وثمر الألباب» للحصرى القيراونى، و«نهاية الأرب فى فنون الأدب» لشهاب الدين أحمد النويرى، و«المقدمة» لابن خلدون و«تاريخه الكبير» أيضا، و«البداية والنهاية» لابن كثير.. وعشرات غيرهم.

هذا البرنامج كان سببا رئيسيا فى تكوين مكتبتى التراثية (مع جمال الغيطانى لا أنساه) التى استوعبت كتب التاريخ الإسلامى العام، وحوليات مصر الإسلامية، وموسوعات الأدب العربى الضخمة؛ «نهاية الأرب فى فنون الأدب» للنويرى، و«صبح الأعشى فى صناعة الإنشا» للقلقشندى، و«معجم الأدباء» و«معجم البلدان» لياقوت الحموى، «والكامل فى اللغة والأدب» للمبرد، و«الكامل فى التاريخ» لابن الأثير، و«الفصل فى الأهواء والملل والنحل» لابن حزم الفقيه الأندلسى الظاهرى، وكذلك كتابه الآخر فى العشق «طوق الحمامة فى الألفة والألاف».. عشرات من الكتب والمؤلفين تعرفت عليها من خلال هذا البرنامج وسعيت لقراءتها واقتنائها بفضله..

ظل صوت أمين بسيونى قويّا ورواسخا داخل وجدان كل من استمع إليه وتابع برنامجه، وانجذب لأدائه الذى لا تشك لحظة واحدة أن وراءه مهارات وإمكانات ضخمة، ترفدها ثقافة واعية وحقيقية وخبرة طويلة فى مجال العمل الإذاعى، فضلا عن تمكن ومستوى رائع ورفيع من اللغة العربية (التى صار التمكن منها والبراعة فيها أندر من الكبريت الأحمر فى هذا الزمن الأغبر)؛ كل ذلك فى ما أظن وازاه خبرة إدارية وممارسة طويلة لإدارة العمل الإذاعى بصفة خاصة والعمل الإعلامى بصفة عامة.

أمين بسيونى من مواليد المنوفية فى 21 نوفمبر 1933، ومنذ أن انطلقت رحلته مع العمل الإذاعى فى 28 أبريل 1957، بدأت مسيرة طويلة ومهمة فى حياة أمين بسيونى وفى تاريخ الإعلام المصرى على السواء، رحلة طويلة قضى منها تسعة عشر عاما مذيعا فى إذاعة (صوت العرب)، ثم نُدب مديرا لها عام 1976، ثم عين نائبا لرئيس شبكة صوت العرب فى عام 1981، وبعدها بعامين سيتم ندبه رئيسا لها، وفى عام 1988 سيعُيِّن رئيسا للإذاعة وعضو مجلس الأمناء المنتدب لقطاع الإذاعة.

وأخيرا سيتولى أمين بسيونى منصب رئيس اتحاد الإذاعة والتليفزيون فى نوفمبر 1991، قبل أن يصبح رئيسا لمجلس إدارة الشركة المصرية للأقمار الصناعية. كما كان أمين بسيونى صاحب أول بصمة فى الفضاء العربى من خلال «الفضائية المصرية»، التى وضع نواتها، وأعلن يومها أن العصر المقبل هو «عصر السماوات المفتوحة»، ثم شارك فى وضع حجر الأساس لمدينة الإنتاج الإعلامى والمنطقة الإعلامية الحرة، ورأس شركة الأقمار الصناعية المصرية لتصبح أقمار النايل سات هى المسيطرة على فضاء الوطن العربى والشرق الأوسط.

رحلة طويلة وعامرة تقلد خلالها بسيونى أرفع المناصب الإذاعية والإعلامية، وكان شاهدا على تطوراتٍ مذهلة فى تاريخ هذا المبنى الضخم القابع على كورنيش النيل الشهير بمبنى الإذاعة والتليفزيون.
رحم الله الإذاعى القدير الرصين، وعفا عنه وغفر له، وجزاه خيرا عما قدّم وعلّم وأفاد..

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved