اعتداءات سريلانكا ومخاطر التطرف

وليد محمود عبد الناصر
وليد محمود عبد الناصر

آخر تحديث: الإثنين 29 أبريل 2019 - 10:10 م بتوقيت القاهرة

تعد الاعتداءات التى جرت فى الآونة الأخيرة على عدد من المنشآت والرموز الدينية للبوذيين والمسيحيين فى سريلانكا وما نتج عنها من أعداد كبيرة غير مسبوقة فى ذلك البلد الآسيوى من الضحايا الأبرياء من قتلى وجرحى، ناقوس خطر جديد وجرس إنذار متجدد يوضح لنا بجلاء استمرار المخاطر الناجمة عن حالة التطرف والتشدد الدينيين لدى قطاعات، خاصة من الشباب، فى حالة العالم الإسلامى، واللذين انتقلا، على مدار عقود متتالية وعبر منحنى تصاعدى بوتيرة متسارعة، من داخل حدود دائرة الفكر والعقيدة والفقه البعيدة نظريا عن ممارسة العنف أو سفك الدماء إلى الساحات الواسعة والمتنوعة للحياة العملية اليومية التى تتم ترجمة التطرف الفكرى فيها إلى فعل عنيف ودموى وإرهابى يأتى دوما على حساب أتباع ديانات وعقائد أخرى، بل وعلى حساب آخرين من أتباع نفس الدين، أى الدين الإسلامى، لمجرد أن لهم رؤى وتفسيرات مختلفة للدين ونصوصه عما يحمله أصحاب تلك التوجهات المتشددة والمتطرفة.

وجاءت هذه الاعتداءات بعد فترة وجيزة من اعتداءات متطرف يمينى مسيحى أبيض نيوزيلاندى على مسجدين فى مدينة «كرايست تشيرش» فى نيوزيلاندا وهى اعتداءات تركت عشرات الضحايا من القتلى والجرحى من المسلمين، وربما كان فى ذلك الترتيب الإلهى ميزة وفائدة، إذا جاز أن نقول ذلك فى سياق استنتاجات مستقاة من دراسة وتحليل دلالات وانعكاسات اعتداءات إرهابية دفع ثمنها أبرياء من أبناء جنسيات متباينة ومتعددة وأتباع عقائد مختلفة، لأن من دلالات تفسير الحدثين معا أن ندرك جميعا، أيا كان الإقليم الذى نعيش فيه وأيا كانت المعتقدات التى نحملها فى عقولنا وقلوبنا، مخاطر التعصب والتطرف والتشدد الفكرى الدينى أو القومى أو العرقى، ومصدرهم فى حقيقة الأمر جوهره واحد، وهو منظومة الفكر اليمينى المتشدد، سواء كان ذلك فى بلدان الغرب أو فى البلدان الإسلامية أو فى بلدان أى منطقة أخرى فى العالم أو لدى أبناء أى دين أو عقيدة أخرى.

وإذا عدنا إلى تناول وتحليل اعتداءات سريلانكا، فعلينا أن نتحلى بالشجاعة والصراحة فى مواجهة النفس، وبدون أن نتحول إلى جلد الذات أو نتبنى منهجا اعتذاريا أو منطقا دفاعيا بالضرورة، من خلال الاعتراف والإقرار بأن ما حدث هو نتاج سلسلة طويلة من التراكم التاريخى لموروث من الفكر الشديد التطرف والتعصب، ليس فقط فى وجه «الآخر»، أى غير المسلم، وإنما أيضا فى وجه من يختلف فى الرأى والتفسير من أبناء نفس العقيدة الدينية الإسلامية، وهو فكر يجمع بين جنباته العديد من النواقص وأوجه الخلل منها، على سبيل المثال لا الحصر، أنه فكر ظلامى من جهة وانعزالى من جهة ثانية وشديد التوغل فى اليمينية المتطرفة من جهة ثالثة، وتصدق الصفات السابقة على منطلقات هذا الفكر ومسلماته بنفس القدر الذى تنطبق به على أطروحاته ودفوعه، وأيضا بنفس القدر الذى تصدق به على تنبؤاته وطموحاته وأهدافه وغاياته، سواء منها المعلن أو غير المعلن، المباشر أو غير المباشر.

فهذا الفكر بدايةً يمثل نهجا مغايرا تماما لنهج التسامح والقبول بـ«الآخر» واتباع سبل الجدل والنقاش والحوار معه كسبل لتسوية نقاط الخلاف أو تمكين كل طرف من فهم وتفهم منطلقات الطرف الآخر والتعايش مع الواقع المعاش لاستمرار الاختلاف والخلاف، وهى جلها سبل تتصف بالسلمية والإيجابية والتفاعل وتبتعد عن الإكراه أو الازدراء أو العنف، وبالتالى فهذا الفكر هو بمثابة النقيض التاريخى لروح اعتبار التعددية جزءًا من المسلمات الحيوية فى حياتنا، باعتبار ذلك فى الأساس منصوصا عليه بعبارات وإشارات صريحة فى القرآن الكريم، بل واعتبار تلك التعددية مصدر إثراء وقوة لمسيرة الحضارات والثقافات الإنسانية والبشرية على مدى مسيرتها الطويلة والمستمرة.

كذلك فإن الفكر الكامن خلف تلك الأعمال الإجرامية وأفعال العنف الإرهابى هو من نفس عينة الأفكار التى عاشتها الإنسانية فى مراحل تاريخية سابقة، ولا تزال تعيشها فى بعض الحالات، كما عاشها العالم الإسلامى فى فترات من ماضيه، ولا يزال يعانى منها ومن آثارها حتى الآن، وهى الداعية إلى تكفير «الآخر»، مرة أخرى سواء كان هذا «الآخر» هو مجرد المختلف دينيا أو مذهبيا أو عقائديا، أو حتى على أرضية الخلاف الفكرى والفقهى داخل الدين أو العقيدة أو المذهب الواحد، والاستعداد للذهاب إلى أبعد مدى فى هذا التكفير والعمل على تقديم المبررات والمسوغات له بهدف منحه المشروعية وإضفاء الطابع الشرعى عليه، ومن ثم جعل هذا التكفير مقدمة لدعوة الأنصار والأتباع لهذا الفكر للإقدام، برضا وقبول من هؤلاء الأنصار ومظنة أنهم بذلك يلبون داعيا إلهيا، على القيام بأعمال عنف وإرهاب، هى فى حقيقة الأمر تمثل أبعد ما يمكن أن يكون عن جوهر ومضمون رسالة الدين الإسلامى فى بواعثها وغاياتها.

إلا أن من أخطر ما تتصف به تلك التوجهات الفكرية المتعصبة والمتشددة والمتطرفة هو أنها تسعى إلى تدمير كل ما هو قائم وموجود وملموس من مقومات مشتركة بين أتباع الدين الإسلامى وبين أتباع الأديان والعقائد الأخرى فى العالم، ربما من وجهة نظر ذلك الفكر وأصحابه بهدف إبراز تميز المسلمين عن غيرهم، إذا ما أحسنا النوايا، أو على خلفية اعتبار ذلك يدفع جموع المسلمين للانعزال عن الآخر والتقوقع على الذات مما يسهل استهدافهم، إعلاميا وثقافيا على الأقل إن لم يكن سياسيا واجتماعيا أيضا، من قبل غير المسلمين باعتيارهم داعمين لهذا الطرح الفكرى المتطرف، حتى ولو من خلال الصمت عنه، ويسوق خصوم الإسلام والمسلمين على ذلك أدلةً منها عدم رغبة أو قدرة المسلمين، أو الاثنين معا، على الاندماج فى المجتمعات غير المسلمة التى هاجروا إليها واستقروا فيها منذ قرون أو عقود أو سنين، وحظوا فيها بالحماية والطمأنينة، وذلك بعدما فروا من مجتمعاتهم الأصلية التى لم توفر لهم تلك الحماية أو الرعاية أو الأمان، وبالتالى يكون هذا مدخلا لإلقاء بعض من هؤلاء المسلمين المقيمين خارج حدود العالم الإسلامى، خاصة من الشباب، فى أحضان دعاة هذا الطرح الفكرى الظلامى والانعزالى والداعى للعنف والإرهاب مع تقديم التبريرات لذلك.

وهكذا يعود بنا الحديث مرة أخرى إلى ما ذكرناه وذكره غيرنا مرارا وتكرارا من قبل، ألا وهو ضرورات، بل وحتمية، مراجعة الموروث الفكرى بشأن تفسير الدين كنصوص أو تفسير التاريخ الإسلامى كفعل على الأرض بهدف تجديد الفكر والخطاب معا، ليس إصغاءًا لنصائح أحد من خارج صفوف الأمة أو إرضاءً له، ولكن بغرض استهداف صالح العرب والمسلمين، سواء فى حاضرهم أو فى القادم من أجيالهم ومستقبلهم.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved