مكان مصرى للمعرفة

نبيل الهادي
نبيل الهادي

آخر تحديث: الإثنين 29 أبريل 2019 - 10:05 م بتوقيت القاهرة

ظللت لوقت طويل وأظن أننى ما زلت أبحث عن ذلك المكان الذى يلهم كلا من الأستاذ والطلبة حتى يستطيع كلاهما تبادل المعرفة ــ التى هى ليست أبدا فى اتجاه واحد. وكانت إحدى محطات البحث تساؤلات عن لماذا لا يبدو الأساتذة والطالبات والطلاب فى حال أفضل. كنت قد قرأت أن واحدا مما شكل فرقا حاسما بين الشرق والغرب ومؤسساته الأولى فى عهد الإغريق كان ما يعرف بـ «الفضول المعرفى» فى جوهرها. وكان الإغريق القدامى يسافرون حتى ثلاثة أيام على أقدامهم حتى يحضروا العروض المقامة فى المسرح والتى كان من أولها ملحمة الإلياذة والأوديسا. كنت ولا شك سعيدا بمعرفة أن أصل المسرح ما هو إلا مؤسسة تعليمية وليس مكانا لأشياء أخرى. على نقيض الفضول المعرفى كان الشرق فى الصين وأماكن أخرى يقدس «الطاعة». والتى وإن أنتجت مجتمعات تبدو متماسكة على الأقل من الخارج. وبينما أدى الفضول المعرفى فى الغرب إلى ظهور وتطور التساؤل والذى بدوره أدى لظهور النظريات والنقاشات التى تراكمت وأنشأت بدايات للمعرفة البشرية المؤسسة على العقل، لم تؤد الطاعة إلى تطور مماثل فى الشرق وتساءلت هل حرمنا نحن أهل الشرق من فرصة فى المساهمة فى إنشاء المعرفة؟

انتشلنى كتاب نصر حامد أبو زيد «هكذا تكلم ابن عربى» وخاصة ما أورده عن مفهوم الحيرة المعرفية والتى يمكن أن نقابلها بمبدأ عدم اليقين الشهير مع فارق جوهرى وهو أن الحيرة المعرفية تعنى أن الحقيقة موجودة ولكننا لا نعرف فى أى شكل تتجسد ولذلك فعلينا البحث والسعى الدائم لعلنا نصل لبعض منها. وكنت أستعمل هذا المفهوم لوصف القاعة التى أقوم بالتدريس فيها خاصة لطلبة الدراسات العليا. أتذكر طبعا دهشة وربما انزعاج بعض من طلبتى.

التساؤل عن مكان المعرفة قادنى إلى البحث فى الجامعة التى أنتمى إليها والتى أسست منذ أكثر من مائة وعشرة أعوام باسم الجامعة الأهلية عندما أدرك بعض من أكبر مثقفى مصر فى ذلك الوقت مدى حاجة المجتمع لمكان للتعليم والمعرفة الإنسانية واستجاب الشعب بطوائفه فكانت الجامعة الأهلية التى ليست هى إنشاء حكوميا أو إنشاء خاصا بل جامعة للشعب. وكان إدراكى المعمق لتلك الحقيقة التى تجعل من تلك الجامعة لا مثيل لها مصدر فخر شخصى كبير للغاية كما أنه توضيح دائم للزملاء والأصدقاء والطلبة أننى أنتمى لمؤسسة أصلها طيب للغاية. وبينما انتقلت الجامعة الأهلية من موقعها الأول فى ميدان التحرير والذى شغلته بعدها الجامعة الأمريكية إلى الموقع الدائم لها بالجيزة تسمت الجامعة فيما تسمت بـ«الجامعة المصرية» وكان هذا ولا يزال أحب اسم إلى نفسى. ثم حملت فيما بعد اسمها الحالى.

يقول ريد وأعتقد أنه على حق أن جامعة القاهرة لا زالت منذ نشأتها تعانى من بعض الإشكاليات التى لم تحل ولكنها أيضا الجامعة التى اختار قاعتها رئيس أكبر دولة فى العالم ليخاطب منها العالم الإسلامى الذى يتجاوز سكانه المليار ونصف. ولم يكن هذا الاختيار مصادفة أبدا.

فى السنوات الأخيرة تعاملت مع الجامعة كمكان حقيقى للتعليم وتوليد المعارف من خلال بعض التجارب التى يهدف بعضها إلى بدء تحويل الحرم الجامعى إلى مكان مستدام من خلال تنقل باستعمال الدراجات إلى أماكن للزراعة الحضرية تسهم فى تحسين غذاء الطلاب وتوفير المياه ونسعى الآن إلى تدوير المخلفات بصورة تساهم فى تحسين البيئة وتعليم الطالبات والطلاب. نسعى بجد لتحويل الجامعة إلى معمل للتجارب يستطيع توليد المعرفة والخبرات التى تفيد المجتمع ككل ونتمنى أن ننجح قريبا.

كثيرا فى أحاديثى مع زملائى وزميلاتى ما نتطرق لحال جامعتنا ودائما ما أذكرهم بهذا الأصل الطيب الذى لا مثيل له والذى يستدعى من أى ممن يتقلد أى منصب فيها صغيرا أو كبيرا أن لا ينسى ما يستدعيه ذلك من مسئولية جسيمة.

نحاول أن نعلم طلابنا الكثير من خلال محاضراتنا والزيارات الميدانية والقراءات التى نطلبها ولكننى أدرك جيدا أن طلابنا يتطلعون إلى ما نفعل وما نقول فى غير قاعات الدرس ربما أكثر مما نفعل داخلها.


هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved