رمضان الذى يفاجئنى كل عام ولا يخذلنى

تمارا الرفاعي
تمارا الرفاعي

آخر تحديث: الأربعاء 29 أبريل 2020 - 10:00 م بتوقيت القاهرة

هل فعلا مرت سنة على شهر رمضان؟ هل مضى قرابة الشهرين على الحجر الصحى؟ مر أسبوع على آخر مقال؟ هل عدت على سبعة أيام إضافية منذ أن شطبت يوما على النتيجة بقلم الرصاص؟ أظن أن أكبر درس تعلمته فى الأسابيع الماضية هو درس فى العلاقة مع الزمن. لا حدث أنتظره ولا مناسبة أعد الأيام حتى أصل إليها، إنما ساعة رملية أقلبها على رأسها وعلى ظهرها دون توقف، فقط لأبقى بعضا من البنية فى يومى، يمر الرمل من عنق الزجاجة الضيق دون تأفف، يقع بانسيابية تفاجئنى، لا استعجال ولا تغيير فى الإيقاع.
***
محاولة إخراج شخص من إطار الزمن هى من أكثر أدوات التعذيب انتشارا، فتبدأ معظم حالات الاعتقال والاستجواب بحجب نور الشمس عن السجين بغية انتزاعه من المألوف بشكل يفقده بعض توازنه. لذا فقد درجت عادة رسم خطوط على جدران السجن تدل على الأيام، فالتمسك ببنية زمنية بأى شكل هو عامل يساعد على الثبات، تماما كما يساعد نسيان الزمن على الاسترخاء أحيانا.
***
أن يبدأ شهر رمضان فى معاده لكن خارج الزمن، بينما ينقسم العالم من حولى إلى جزء ابتلعته الأرض فقرر أن يختفى فى الحجر، وجزء آخر قرر لأسباب عديدة أن الحياة مستمرة ولن يصيبنا إلا ما قرره الله أو قدره لنا. عالمان متوازيان استقبلا شهرا يجلب معه الدفء والغيرية وإن كان ذلك بشكل نمطى وصورى أحيانا. شهر رمضان دون «اللمة» بالنسبة للكثيرين، أو مع «اللمة» لكن هى لمة يرافقها بعض الاضطراب، ربما فعلا قرر نصف العالم أن الحديث عن الجائحة مبالغ به أو أن الحياة اليومية لا تحتمل تعطيل ناتج عن مجهول يتعامل الجميع معه وكأنه موت حتمى.
***
بدأ شهر رمضان، بدأت المسلسلات والنقاشات المعهودة، كما بدأت الوصفات التى يتم تبادلها على وسائل التواصل الاجتماعى، هناك مباركات تصل ودعوات تحاول اختراق السماء. هناك أيضا ثقل، هناك بطء، رغم الساعة الرملية التى لا تتوقف فتذكرنى بنص أدبى قرأته فى كتاب فى المدرسة، يحاول الكاتب أن يشرح فيه رتابة الزمن فيقول «كل شىء يتتابع بشكل مثير للشفقة، أدخل مفتاحى فى قفل الباب كل يوم بنفس الطريقة، أضع يدى على علبة الكبريت وأشعل عودا، النظرة الأولى التى ألقيها على الغرفة هى نفسها، كل شى يتتابع بنفس الترتيب».
***
لكن العالم اليوم يبدو لى خارج الزمن رغم رتابة شهر رمضان، ثمة مجهول كبير يتعامل معه الكثيرون بهلع أو بغير اهتمام، ثمة عالمين متوازيين، أعرف أحدهما وأشتاق إليه ولا أعرف الثانى منهما. أخرج الفانوس والمفرش المزركش، اشتريت كليهما من محلات فى القاهرة. أعرف ذلك الانقباض فى القلب مع أذان المغرب فى اليوم الأول حين أتساءل عم يشعر به من لا يجد «الإفطار الشهى» الذى يتمناه الجميع. أعرف مئذنة الجامع الأموى فى دمشق حين تظهر على شاشة التلفزيون كخلفية للأذان الجماعى الذى لا أجد له بديلا فى العالم كله. أعرف شباك المطبخ الذى أنظر خارجه وأنا طفلة فى العاشرة تماما كما ينظر إلى خارجه ابنى اليوم. لا أعرف سر النظر خارج الشباك لحظة قيام أذان المغرب لكنى أظن أن ثمة ارتباط آنى وخفقان فى القلب يربط الفرد بالسماء لحظة أذان المغرب فى رمضان، وهنا يأتينى صوت المجموعة من المسجد الأموى فيطغى على المكان. لا يهم إن كنت فعلا فى دمشق أم فى آخر العالم، لا يهم إن كنت قد أخرجت سوريا وبيتى فيها من عقلى طوال السنة، ففى وقت المغرب فى رمضان أعود إلى بيتى هناك رغم المسافة، أشق طريقا لم أسلكه منذ سنوات فى ثانية واحدة وأعود بعدها إلى مكانى الحالى.
***
يربكنى شهر رمضان بنفس الطريقة التى يفرحنى بها، أحب قدومه المتوقع الذى رغم توقعى له يفاجئنى كل عام «معقول صار وقت رمضان؟» أحب أن أضع تمرا فى طبق رغم أننى لا آكل التمر. أحاول أن أتذكر طقوسا أشعر أننى يجب أن أغرسها فى أولادى رغم ابتعادى عن طقوس كثيرة باقى أيام السنة. لم أعد أحاول تبرير ما يدفعنى فى شهر رمضان إلى التمسك بأقوال قديمة، أنبش فى ذاكرتى وأسحب منها قصصا وصورا ألصقها على جدران الحاضر. أريد أن يراها أطفالى وأن يمتلكوها فيسحبونها بدورهم حين يصبح لكل منهم بيتا وعائلة يوما ما. هى رغبة أنانية بنقل قصصى إليهم، هى نزعة نرجسية تسعى إلى إبقاء بعض منى حيا داخلهم فى حال ذهبت، فأنا أكاد أجزم أننى سأعود إلى الحياة أيضا كل شهر رمضان داخلهم حتى لو لم أعد بينهم. أريد وقتها أن أعود مع أقوال قديمة وفانوس اشتريته من القاهرة وأذان جماعى يأتيهم من الجامع الأموى.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved