بين النص والمعنى

إكرام لمعي
إكرام لمعي

آخر تحديث: الجمعة 29 أبريل 2022 - 9:35 م بتوقيت القاهرة

عادة فى نهاية هذا الشهر (إبريل) من كل عام، تلتقى الأعياد الدينية الإسلامية والمسيحية (الفطر والقيامة)، ثم يليهما مباشرة العيد المصرى عيد الربيع، من هنا علينا أن ندرك ما الذى يقدمه النص الدينى للإنسان المعاصر بهذا الشأن. فالنصوص الدينية يبلغ عمرها ما يقرب من ألفى عام، فكيف تحمل هذه النصوص للمصريين معانى وفلسفات بل وروحانيات يمكن أن تعالج البشر الذين يعيشون فى عالم حديث متحضر ومتقدم لا يتوقف عند حد معين؟!
يقول البعض إن الفلسفة من وراء هذه الأعياد قد اكتملت ولا يوجد وحى جديد يمكن إضافته عليها، وقد اكتملت أيضا التفاسير العمدة (المعتمدة) للكتب المقدسة للأديان السماوية الثلاثة ولا يوجد هناك جديد، وقد حفظ الناس عن ظهر قلب معظم نصوص الكتب الدينية المقدسة الموحى بها بل ومعظم تفاسيرها، وحيث لا يوجد وحى أو إعلان جديد من السماء نكتشف أن هذا الأمر قد اكتمل من مئات السنين.
هذه الإجابات كان يمكن أن تكون صحيحة لو كان التاريخ قد توقف عن البوح، أو العلم قد انتهت نظرياته ولا توجد فى جعبته نظريات جديدة، أو أن كتب التفسير للكتب المقدسة التى بين أيدينا قد انتهت وليس هناك من جديد، لكن عندما نتوقف قليلا أمام هذه الاستنتاجات نكتشف أن تفاسير الكتب المقدسة تتجدد بتجدد العصور واختلاف الحضارات بل وتعدد الثقافات. فالكتب المقدسة التى أوحى بها الله من آلاف السنين لم يتوقف تفسيرها فى معظم لغات العالم، بل العكس هو الصحيح، حيث يُخرج المفسر المجتهد جُددا وعتقاء من النص المقدس، أى معانٍ جديدة لكل حضارة وعصر. فكل عالم مفسر للدين يُخرج من جعبته النظريات الأساسية القديمة للتفسير مضيفا إليها كل ما هو جديد وحديث ليكون قادرا على التصدى لتطور الزمان والمكان والإنسان، وإلا تجاوزه الزمن. وهذا الجهد فى القراءة والتفسير لكتب الوحى المقدس لا يتوقف طالما الحضارات تتقدم، فالوحى المقدس حرف ثابت لكن تفسيره متطور تطور الإنسان، ولا شك بنظرة عامة على عالمنا نجد مناطق كثيرة تعيش أزمات طاحنة من عنف دموى، فالبشر يتقاتلون ويَقتلون ويُقتلون، وعندما يَقتل إنسان إنسانا آخر يعتقد أنه بهذا يقوم بعمل وطنى أو مقدس أو دينى ليس به أى جرم، وأن الله لن يعاقبه فى قتله لعدوه، طالما هو قتله فى سبيل الوطن أو المبدأ أو الدين أو العقيدة المختلف عليها فى نفس الدين أو فى أديان أخرى.. إلخ.
وهو نفس شعور العدو الذى تم قتله فهو يعتبر أنه قد مات فى سبيل الله أو الوطن أو المبدأ، ولقد رأينا هذا حتى فى الصراع بين أتباع الدين الواحد، ففى التاريخ المسيحى كانت هناك حروب بين الكاثوليك من ناحية والمصلحين البروتستانت من الناحية الأخرى، وبين المسيحيين واليهود وبين الغرب والشرق، وبين المسيحيين والمسلمين فى الحروب الصليبية، وبين الشيعة والسنة... إلخ.
• • •
كل طرف من هؤلاء يَظن أن عدوه سوف يذهب إلى الجحيم وأنه هو سوف يذهب للجنة أو السماء، ونحن هنا نرصد الظاهرة فقط لكن ليس لدينا إجابة حقيقية واحدة لأن كل طرف لديه إجابات مطلقة وفكر مطلق وليس لديه استعداد للحوار حول اعتقاداته. وهنا علينا أن ندرك أن بذور العنف تنبت فى تربة العقول، والمفارقة أن تلك البذور تتخلق أيضا فى العقول، إنها مزرعة الإنسان الأبدية، فهناك أساتذة وفلاسفة وفقهاء ولاهوتيون دورهم الأساسى تخليق نظريات تُترجم للبسطاء بكل لغات العالم، وهى كما قال العلماء لا تُخلق من العدم ولا تفنى مثل المادة. وصياغة هذه الأفكار بطريقة تثير إعجاب البسطاء من خلال خُطب سياسية عصماء تملح بملح نصوص دينية وتصب فى رءوس الجنود الأميين أو الذين يعرفون القراءة والكتابة فقط ويدبجون أقوالهم بالبلاغة شعرا ونثرا. والسؤال هو ما الذى يمكن أن يقف بين هذه التفاسير المزيفة والعقول البسيطة؟، والإجابة هى العقل لا سواه. فالعقل هو القوة المقاومة لهذا الطوفان، والحل هو تثقيف الجنود ليس فقط بالقراءة والكتابة لكن كيف يتعلم الإنسان منذ طفولته منطق التفكير العلمى، ويتعلم ما الذى يقبله وما الذى يرفضه، بل ويتعلم كيف يفسر الكتب المقدسة بما يناسب العصر والتقدم، بل والإنسانية (حقوق الإنسان). فبلا شك أن القرن العشرين وامتداده حتى الآن شكل حلقة تحول كبرى فى المسيرة الإنسانية خاصة منذ عصر النهضة الأوروبى، وكذلك عصر مدارس إدراك وفهم الكتب المقدسة بطريقة علمية أدبية صحيحة.
لقد أعطت هذه النهضة العلمية والتفسيرية فاعلية مذهلة بين المبدع والمتلقى، فكاتب التفسير للكتب المقدسة ومتلقيها يصيران شريكين فى النص بالتحليل النقدى اللغوى المكتوب بها النص إلى التفسير الأصولى، وبالعودة إلى هرمس مفسر كلام الآلهة لبشر فى الأساطير اليونانية، استخدم الفلاسفة والمفكرون أساسيات التفكير العلمى فى النص المقدس، وهو ما استخدمه مارتن لوثر وجون كالفن وغيرهما من قادة الإصلاح الدينى فى عصر الإصلاح لتفسير الكتاب المقدس مما كان ضربة صاعقة لرجال الكنيسة التقليدية خاصة عندما استوعبها الشعب، ومن هنا من ثورة الكنيسة المُصلحة اتسع المنهج من التأويل أو التفسير فى القرن التاسع عشر على يد الفيلسوف الألمانى شالير ماخر لفهم النصوص غير الدينية أى الأدبية والفكرية وغيرها. والبحث عن المعنى فى النص كان هو الهدف الذى ارتحل فيه جميع المفسرين الجادين.
• • •
يقول الفيلسوف والروائى الإيطالى الكبير أومبيرتو إيكو الذى ألف أكثر من ثلاثين كتابا وبحثا فى الفلسفة والفكر: «إن القارئ مؤلف مواز للمؤلف الأول».
بلا شك أن الفلسفة الإيطالية ليست لها قوة الحضور الأوروبى والأمريكى بصفة عامة، لكن إيكو بتحليله العميق فى النص الإبداعى والفكرى أضاف الكثير للفكر الإنسانى قائلا: أنه من المؤكد أن إنسان اليوم المثقف لابد وأن يُبدع دائما وحتما ذلك إن كان قارئا لإبداع الآخرين، وهنا عليه أن يُدرك أن الإنسان معنى ساكن فى كل نَص، نحن نتطلع اليوم بهذا الزخم العقلى والأدبى والدينى المتجدد أن يولد عقل إنسانى لا يَستبعد فيه النص الإبداعى أو الإعلانى أو السياسى عقول البشر.
يقول أومبيرتو إيكو فى كتابه «خطوات الجمبرى» السياسة مثل خطوات الجمبرى لا يمكن أن تستقيم. لكن رغم هذا التشاؤم القلق أعتقد أن العقل الإنسانى القادم بقوة العلم، سيكون المهندس لعالم يرسم خطوط الطول والعرض فيها بأقلام الفكر والعلم والدين ربما تكون رحلة طويلة، لكنها حتما ستأتى ولا تتأخر.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved