الخروج من الإخوان

عبد الله السناوي
عبد الله السناوي

آخر تحديث: الأحد 29 مايو 2016 - 10:35 م بتوقيت القاهرة

يصعب إصدار أى أحكام قاطعة على فصم «حركة النهضة» فى تونس علاقاتها مع جماعة «الإخوان المسلمين»، ولا على تداعياته المحتملة داخل الحركات الإسلامية المماثلة بالعالم العربى.

إعادة تعريف الحركة كـ«حزب تونسى ولاؤه لتونس» نفى لأى التزام بالتنظيم الدولى وتحلل من أى مرجعية فكرية وسياسية تنتسب لأفكار «حسن البنا» وخبرة الجماعة التى أسسها عام (١٩٢٨).

وطلب التمايز بوضوح مع تيارات «التشدد والعنف» ينطوى على إدانة كاملة لكل من يرفع السلاح فى وجه مجتمعه بما فيها أطراف نافذة فى الجماعة الأم.

لا مفاجأة واحدة فيما طرحه زعيم «حركة النهضة» «راشد الغنوشى» بالنظر إلى تصريحاته التى أطلقها خلال السنوات الأخيرة وارتفعت نبرتها بالوقت.

الجديد أن ما كان يقوله فى وسائل الإعلام أو ينقل عنه من مقربيه بات خطا سياسيا وفكريا جديدا اعتمدته وثائق الحركة فى مؤتمرها العاشر الأكثر إثارة فى تاريخها كله.

جوهر ما هو معلن: «النأى بالدين عن المعارك السياسية»، أو الفصل بين المقدس والمتغير، و«العمل على التحييد الكامل للمساجد فى خصومات السياسة»، أو توظيفها لمقتضيات الصراع الحزبى.

كل هذا الكلام الذى ورد على لسان «الغنوشى» لا يجوز وصفه بـ«الانقلاب الكامل» على إرث الحركة التى تأسست فى السبعينيات من القرن الماضى.

فهو نفسه يصف أعضاء حركته بـ«المسلمين الديمقراطيين»، كأن الإسلام السياسى هو الدين نفسه.

المفاهيم تحتاج إلى ضبط تفتقده ومراجعات لم تحدث.

أى تطور فكرى وسياسى لا يستند إلى مراجعات نقدية فى الأصول والمرجعيات والتجارب مرشح للانتكاس.

بحسب «الغنوشى» فإن «النهضة تطورت من حركة عقائدية تخوض معركة من أجل الهوية إلى حركة اجتماعية شاملة تدعو للديمقراطية إلى حزب ديمقراطى مسلم متفرغ للعمل السياسى».
فما معنى حزب ديمقراطى «مسلم»؟

هل المقصود أن مرجعيته إسلامية أم أن عضويته تقتصر على المسلمين وحدهم دون أصحاب الديانات الأخرى؟

إذا كان «الغنوشى» لديه شجاعة الاعتراف بالأخطاء التى ارتكبت أثناء الثورة وبعدها، كما قال حرفيا، فما هى بالضبط تلك الأخطاء؟

بسؤال آخر: هل كانت الأخطاء محض تقديرات سياسية جانبها الصواب أم أنها من صلب الأفكار والتصورات التى تحكم بنية الحركة وتوجهات منتسبيها ونوع الثقافة الشائعة بينهم؟

الإجابات ضرورية لاكتساب الصدقية، فقد تبنى الخطاب نفسه قبل ثورة «يناير» ما يسمى «التيار الإصلاحى» داخل الجماعة الأم لكنه انتكس بعدها بفداحة.

لم تستند دعواته للفصل بين«الدعوى» و«السياسى» إلى مراجعات عند الجذور لأفكار «حسن البنا» و«سيد قطب»، ولا كان ممكنا لجماعة سرية مغلقة أن تثور على إرثها لتلحق بعصرها وتكيف أوضاعها على مقتضيات الديمقراطية.
بدت «دعوات الإصلاح» معلقة فى فضاء الأمنيات دون أن تلمس مرة واحدة أرضا صلبة تقف عليها.

كان هناك صراع غير متكافئ داخل الجماعة بين«إصلاحيين» يقفون على تخومها و«متشددين» يمتلكون مقاديرها.

تداخلت المأساة مع الملهاة بتبنى «المجموعة القطبية» ــ التى ينتسب إليها أغلب أعضاء مكتب الإرشاد ــ ظاهر خطاب الإصلاح دون مضمونه حتى انتهكت المعانى على نحو فاضح.

لم يكن هناك أدنى استعداد لتحديث بنية الجماعة وأفكارها وبرامجها ومناهجها فى «السمع والطاعة» إلا بقدر ما هو مطلوب لحملات العلاقات العامة.

ما يقال للعالم باللغة الإنجليزية غير ما يقال للقواعد فى البيانات بالعربية، وجرى الخلط بين«الشرعية» و«الشريعة»، و«الثورة» و«الخلافة»، و«الديمقراطية» و«التكويش على السلطة»، وكانت النتائج كارثية بالنهاية على الجماعة الإسلامية الأقدم فى العالم العربى.

كان مثيرا فى لحظات الحسم أن أطياف التيار الإسلامى اصطفت بدرجات مختلفة فى خندق واحد، الإصلاحيون والمنشقون عن الجماعة ومتشددوها القطبيون والإرهابيون تحت شعارات متناقضة.

الظاهرة تحتاج إلى قراءة جادة لمعرفة مواطن الخلل التى قوضت أى فرص للإصلاح من داخل التيار الإسلامى وبناء قوى حديثة تؤمن بالديمقراطية وتعمل بقواعدها وأصولها لا بتخيلات الإقصاء بالقوة والترويع بالسلاح وقوائم الاغتيالات وحصار المحكمة الدستورية العليا ومدينة الإنتاج الإعلامى.

لا يجب أن يشك أحد فى مسئولية الجماعة عن إهدار فرصة نادرة للتحول الديمقراطى فى مصر.

إذا كان هناك من وزن تاريخى لخطاب «الغنوشى» فهو أنه لا يكرر الأخطاء نفسها التى قصمت ظهر الجماعة غير أن اختبار الثقافة الشائعة داخل منتسبى «النهضة» لا يجعل مهمة الإصلاح سهلة على أى نحو.
أيا ما كانت النوايا فإن هناك عاملين رئيسيين صنعا الإطار العام للخطاب الجديد.

الأول: ضرورات السلطة والإمساك بمقاليدها دون منازعات من التيارات الليبرالية واليسارية التى رغم انشقاقاتها تحوز أغلبية واضحة فى الرأى العام بحسب نتائج الانتخابات الأخيرة.

المعنى أن تطوير الخطاب من ضرورات الصعود بعد التراجع الذى حدث، والفرصة الآن متاحة على خلفية انشقاق «نداء تونس» الذى أسسه الرئيس «باجى السبسى» وتقدم «النهضة» للموقع الأول فى الأحجام النسبية للكتل البرلمانية.
والثانى: إعادة توفيق الأوضاع مع العالم وحربه مع الإرهاب، بنبذ العنف والقطيعة مع منظماته وتأكيد الطابع المدنى للحركة.

ولذلك انعكاساته على الحركات الإسلامية فى دول عربية عديدة داخل براكين النار أو على حوافها.

كما أن هناك تجربتين ماثلتين فى المشهد التونسى الجديد.

الأولى: التجربة المصرية بما خلفته من ضربة قاصمة للجماعة الأم التى فقدت تماسكها وقدرتها على الحشد والتعبئة وانخرطت فى صراعات داخلية تجاوزت اتهاماتها المتبادلة كل قيد وحد.

بصورة أو أخرى استفاد «الغنوشى» من الدرس وتراجع خطوتين أو ثلاثا إلى الخلف، لكنه الآن يتقدم بثقة خطابه دون خشية تونسة «السيناريو المصرى».

الثانية: التجربة التركية التى استغرقت فى الانحيازات الأيديولوجية على حساب المصالح الوطنية وانخرطت فى صراعات نالت من هيبتها وافتقدت أى نموذج لدولة تحترم الحريات العامة فتراجع وزنها فى إقليمها.
لا يمكن إنكار الكفاءة السياسية الشخصية لـ«زعيم النهضة» فى إدارة أزماته على عكس قيادات الجماعة الأم الذين بدوا هواة تماما عند إدارة الدولة المصرية، واحتكموا إلى العضلات وحدها فخسروا معاركهم بالضربات القاضية.
كما لا يمكن تجاهل الفروق الثقافية بين القيادتين، إحداهما أطلت على عالمها من العاصمة البريطانية لندن لعقود طويلة، والأخرى استبدت بها رؤية محدودة للعالم وقاصرة للمجتمع الذى تطلعت لحكمه خمسمائة سنة مقبلة.
الفارق بين التحول والمناورة ثقافى بالدرجة الأولى، فى صلب الأفكار والاستعداد للمراجعة والالتحاق بالعصر وحقائقه الديمقراطية.

هذا هو الاختبار الرئيسى لـ«الغنوشى» وخطابه التراجيدى الذى أعلن فيه الخروج من الإخوان.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved