فؤاد دوارة.. وفن إدارة حوار ثقافى!

إيهاب الملاح
إيهاب الملاح

آخر تحديث: الجمعة 29 مايو 2020 - 6:35 م بتوقيت القاهرة

(1)
ظللتُ على قناعتى بأن الحوار الصحفى (والمتصل منه بموضوعات الثقافة، والفكر، والأدب، والنقد، بالأخص) من أصعب أشكال الكتابة الصحفية، وأكثرها إرهاقًا واحتياجًا إلى إعداد وصقل وتدريب، على عكس ما يتصور الكثيرون، وعلى عكس ما يتبادر إلى أذهان المقبلين على الصحافة والعمل الصحفى؛ ظنًّا منهم بأن إجراء الحوارات هو البوابة الواسعة التى سيدخلون منها إلى هذا العالم لينتزعوا صكوك الاعتراف بهم كى يصيروا «صحفيين محترفين»!
لكن من وجهة نظرى الأمر ليس بهذه السهولة؛ إن فن الحوار يعنى أن هناك عقلين يتواجهان، كل منهما يعبر عن «رؤية للعالم» ويجسدها فى الوقت ذاته؛ فى الحوار الحر المباشر تتجلى الملكات العقلية والمعرفية واللغوية لطرفيه؛ تتبدى قدرة المحاور على صوغ السؤال وعلى مجاراة ضيفه الذى غالبًا ما يكون شخصية مرموقة فى مجالها الفكرى أو الإبداعى، فى الحديث ومتابعته بدقة لإدارة دفة الحوار تجاه هدفه الذى ينبغى أن يكون واضحًا من البداية لدى صاحبه، وليس مجرد ثرثرة وملء فراغات دون إنتاج محتوى جدير بالقراءة والنشر.
(2)
معنى أن تدير حوارا مع مثقف أو كاتب مبدع أو صاحب رؤية فى العموم، معناه ببساطة أن تكون مطلعا ومستوعبا على أركان هذه الرؤية ومعالمها وأن تكون ملما ومحيطا بإنتاج هذا المفكر أو المثقف؛ قراءة ودرسا وفهما واستيعابا حتى تستطيع أن تحدد بدقة ما الذى يمكن أن توجهه من أسئلة ليضىء مناطق معتمة فى مجمل مشروعه الفكرى أو الإبداعى، أو تحدد زاوية للنظر والعرض تجدد التعريف وتثير الشغف للتعرف على أعماله وقراءتها بعين جديدة، وهذا ما أدتنى إليه قراءة التراث المعتبر الذى تركه أساتذتنا الكبار من النقاد والمحررين الثقافيين فى أعمال ذات قيمة؛ ومن هؤلاء الناقد الكبير والباحث الأدبى المدقق والمحرر الثقافى البارز المرحوم فؤاد دوارة..
(3)
من بين إنتاج فؤاد دوارة الغزير القيم؛ أعتبر كتابه «عشرة أدباء يتحدثون»، فضلا عن قيمته التاريخية والأدبية والإنسانية، نموذجًا حقيقيًّا فى كيفية إنتاج حوارات ثقافية جادة تحتفظ بقيمتها مهما مر عليها من زمن، واعتبارها وثائق أدبية يرجع إليها الباحثون والدارسون، رغم مرور كل هذه العقود الطويلة على ظهورها الأول عام 1965 عن سلسلة (كتاب الهلال).
عشرة أعلام كانوا الأبرز بل الأهم فى مجالات الإبداع والفكر المختلفة فى الثقافة المصرية؛ معظمهم تجاوز الستين بل السبعين (طه حسين، وعزيز أباظة ومحمد فريد أبو حديد، وفتحى رضوان) وأصغرهم آنذاك تجاوز الخامسة والخمسين (نجيب محفوظ، ومحمد مندور). لكن كلا منهم كان صاحب إنجاز بارز ومرموق ومعترف به فى الحياة الثقافية والأدبية. كل الأدباء الذين ضم الكتاب أحاديثهم من جيل الرواد (طه حسين، وتوفيق الحكيم، ومحمود تيمور، ويحيى حقى) «كان لهم دورهم التأسيسى الواضح فى إرساء وتطوير فنون أدبنا الحديث».
ويجب ألا ننسى أن وقت إجراء هذه الحوارات لم يكن هناك إنترنت، ولا وسائط الميديا الحديثة، ولا كانت المعلومات وإمكانية التحقق منها بسهولة شرب كوب ماء فى زمننا هذا!
(4)
من البداية، والغاية التوثيقية التسجيلية للحوارات واضحة ومحددة، وهى التى كانت توجه المحاور فى طرحه للأسئلة وصياغته لإجابات أصحابها؛ بالتأكيد كان دوارة متمكنا من قدراته اللغوية والمعرفية التى تسمح له بمحاورة طه حسين؛ وهو أكبر عقل عربى كان على قيد الحياة فى ذلك الوقت، وبالتأكيد كان دوارة على اطلاع واسع ومعرفة دقيقة وعميقة بأعمال وإنتاج كل من حاورهم فى ذلك الوقت؛ ولم يكن ليتجرأ على طلب الحوار مع توفيق الحكيم مثلا أو نجيب محفوظ أو حسين فوزى من دون أن يكون قد قرأ كلَّ ما صدر لهما من كتب، وكل ما كُتب عنهما أو على الأقل أهم ما صدر عنهما من كتب ودراسات وبحوث..
أما أهم ما يلاحظه قارئ هذه الحوارات، من وجهة نظرى، فهو المزج البارع بين التقديم بين يدى الشخصية المحاورة وتمرير المعلومات السيرية الأساسية المتعلقة بها، وبين عرض أفكاره الأدبية والنقدية المحورية عموما فى ثنايا الحوار، دون أن نشعر فى أى لحظة بنتوء مزعج أو خشونة أسلوبية منفرة، أو تعمد غموض وتعال على القارئ (وما أكثر ما نرى هذا فى أيامنا هذه!)..
(وللحديث بقية)

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved