خرائطنا إذ ترسم فى غياب مصـر

فهمي هويدي
فهمي هويدي

آخر تحديث: الثلاثاء 29 يونيو 2010 - 10:08 ص بتوقيت القاهرة

الخبر المثير أن تحولات إستراتيجية بالغة الأهمية تحدث الآن فى الشرق الأوسط، أما الخبر المؤسف فأن مصر ليست طرفا فيها، بعدما انسحبت من الحلبة واكتفت بالجلوس فى مقاعد المتفرجين. 

(1)
صحيح أن الدول العظمى التقليدية مازالت تتحكم فى الكثير من الخيوط التى تحرك الأحداث فى العالم، لكن من الصحيح أيضا أن الدول الناشئة أو النامية أصبح لها حضورها الذى لا ينكر فى تقرير مصير قضايا الحرب والسلم فى العالم، بل صار اتخاذ قرارات فى هذه الأمور مستحيلا فى غيبة تلك الدول الأخيرة. هذه هى الفكرة الأساسية فى مقالة كتبها وزير خارجية البرازيل سيلسو اموريم «فى 15 يونيو الحالى» على موقع دولى باسم «بروجكت سينديكيت». وهو يشرح فكرته ذكر أن الأزمة المالية العالمية أبرزت دور دول العالم النامى الصاعدة التى تتوزع فيما بين أمريكا اللاتينية «البرازيل والأرجنتين والمكسيك» وأفريقيا «جنوب أفريقا» وآسيا «الصين والهند وتركيا».

هذه الدول أصبحت لها كلمة الآن فى المسائل المالية والبيئية والمناخية ومعاير العلاقات الدولية. وأحدث مثال على ذلك هو مبادرة البرازيل وتركيا للتوصل إلى حل لمشكلة تخصيب اليورانيوم فى البرنامج النووى الإيرانى، وقد اعتبر ذلك الحل الذى تم التوافق عليه بمثابة «قلب للوضع القائم رأسا على عقب».

ورغم أن تلك الخطوة تعد من آيات التعاون بين القوى الجديدة، فإنها تعد أيضا نموذجا للتجاذب الحاصل فى الشأن السياسى بين تلك القوى وبين القوى الأخرى التقليدية الممثلة فى الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبى، وهى التى فوجئت بارتفاع صوت الجنوب فى إعلان طهران، فتجاهلته ومضت فى طريق فرض العقوبات على إيران. الأمر الذى يثبت حرص أصحاب الامتيازات على استمرار احتكار حسم القضايا الدولية ومقاومة رياح التغيير الحاصلة فى عالم ما بعد انتهاء الحرب الباردة.

(2)
التغير الحاصل فى الساحة الدولية له صداه على الصعيد الإقليمى. فظروف الأزمة التى أبرزت دور دول العالم الثالث فى الساحة الدولية، شبيهة بتلك التى أفرزت المتغيرات الجذرية التى تحدث الآن على الصعيد الإقليمى، ذلك أنه إذا كان العالم الغربى يعانى من الأزمة الاقتصادية، فإن العالم العربى يواجه أزمة الفراغ، الذى نشأ عن غياب مصر، وخروجها من المشهد العربى منذ تصالحها مع إسرائيل فى عام 1979.
كأن ذلك التصالح بمثابة ثبيت للحضور الإسرائيلى وإعلان عن الخروج المصرى. وحين حدث ذلك فإن العالم العربى دخل إلى مرحلة التيه، إذ أصبح بمثابة جسم بلا رأس. وفى الوقت الذى خلا فيه موقع القيادة فى العالم العربى، كانت تركيا تنمو وتتقدم وتتأهل للعب دور رئيسى فى منطقة الشرق الأوسط، متجاوزة بذلك الدور الإيرانى على أهميته.

بعدما أثبتت تجربة ثلاثين عاما منذ نجاح الثورة الإسلامية، أن ثمة محاذير سياسية ومذهبية حالت دون الترحيب به فى العالم العربى. لذلك ظل الدور الإيرانى حاضرا فى بعض الساحات وغائبا عن ساحات أخرى، على العكس من ذلك كان الدور التركى الذى كان الطريق مفتوحا أمامه لكى يتقدم فى كل الساحات.

ثمة عوامل ثلاثة أسهمت فى تحقيق الصعود التركى، تتجاوز خصوصية الموقع الجغرافى والخلفية التاريخية هى:
ــ النموذج الديمقراطى الذى وفر للحالة التركية جاذبية وقوة دفع معتبرة، إضافة إلى النهوض الاقتصادى المشهود، الذى حول تركيا إلى قوة اقتصادية معتبرة فى محيطها، أوصل الناتج المحلى إلى تريليون دولار، وجعل من تركيا الدولة رقم 17 فى قائمة القوى الاقتصادية العالمية (يخططون لكى تصبح القوة العاشرة بحلول عام 2020).

أما فى أوروبا فهى تعد الدولة السادسة فى ترتيب القوى الاقتصادية. ومن نتائج هذا الوضع أن تضاعفت صادرات تركيا إلى العالم العربى أكثر من خمس مرات فى الفترة من عام 2003 إلى الآن (من 5 مليارات أصبحت 27 مليارا) كما أن قيمة صادراتها إلى العالم الإسلامى ارتفعت فى الفترة ذاتها من 11 إلى 60 مليار دولار.

ــ المساندة الشعبية وفرت لحزب العدالة والتنمية الأغلبية فى البرلمان، مكنت الحكومة لأول مرة من أن تتمتع بحرية نسبية فى التعامل مع الحلفاء التقليدين، وفى المقدمة منهم الولايات المتحدة وإسرائيل، بمعنى أن الاستناد إلى التأييد الشعبى حرر القرار السياسى الذى لم يعد مرتهنا للإرادة الخارجية، ومن ثم أتاح للحكومة هامشا من الحركة، جعلها تختلف وتتفق مع أولئك الحلفاء، وهذا الاستقلال فى الإرادة الوطنية هو الذى أحدث تباينا فى مواقف أنقرة وواشنطون إزاء المشروع النووى الإيرانى وإزاء حركة حماس (التى رفض أردوغان اعتبارها حركة إرهابية). وهو ذاته الذى أفرز الفراق بين أنقرة وتل أبيب.

ــ وضوح الرؤية الإستراتيجية لدى الفئة الحاكمة. وهى الرؤية التى حدد معالمها وزير الخارجية الدكتور أحمد داود أوغلو فى أكثر من لقاء على النحو التالى: تركيا أكبر من أن تكون مجرد ممر أو جسر بين الشرق والغرب، ولكنها مؤهلة لأن تصبح دولة مركز وصاحبة قرار فى محيطها ــ فى الوقت ذاته فإنها لا تعتبر الغرب قدرها وخيارها الوحيد، لكنها مع الغرب بأمر الجغرافيا ومع الشرق بحكم التاريخ ــ وهى تعتبر أن دورها ومن ثم مجالها الحيوى يمتد من مضيق اسطنبول «البوسفور» إلى مضيق هرمز، ومن القرص (المنطقة الحدوية بين تركيا وأرمينيا) إلى موريتانيا ــ لكى تقوم تركيا بالدور الذى تطمح إليه فينبغى أن تحل مشكلاتها مع جيرانها، فيما سمى بسياسة «تصفير» المشكلات. أى جعلها على درجة الصفر.

(3)
فى التفكير الاستراتيجى فإن الاستقرار ومن ثم النهوض فى الشرق الأوسط يقوم على أعمدة ثلاثة. هى مصر ممثلة للعرب وتركيا وإيران. وهو ما اعتبره الدكتور جمال حمدان استاذ الجغرافيا السياسية الأشهر «مثلث القوة» فى المنطقة. ويرصد الباحثون أن التفكير الاستراتيجى الغربى ظل حريصا دائما على ألا تلتئم أضلاع ذلك المثلث.

وجيلنا عاصر المرحلة التى قادت فيها مصر حركة التحرر الوطنى فى المنطقة، بعدما امتلكت قرارها، فى حين كانت تركيا وإيران تدوران فى فلك المعسكر الغربى. وتراهن إسرائيل على أن تحالفهما معها من شأنه أن يحاصر العالم العربى ويضغط عليه، لكن انقلابا حدث فى ذلك المشهد خلال الثلاثين سنة الأخيرة، بمقتضاه خرجت إيران من المعسكر الغربى، وحافظت تركيا على استقلالها إزاءه. ومن ثم خسرت إسرائيل أهم حليفين لها فى المنطقة.

وفى الوقت ذاته أقامت مصر تحالفا «استراتيجيا» مع الولايات المتحدة، وعقدت تصالحا أقرب إلى التحالف مع إسرائيل. وهو ما بدد الأمل فى تكامل أضلاع مثلث القوة، وأدى إلى انفراط عقد العالم العربى وأحدث فراغا كبيرا فى المنطقة، بدا مهيئا، بل جاذبا، للتمدد التركى.

عبر عن هذا المعنى الكاتب السياسى المخضرم جنكيز شاندلر، أهم معلقى صحيفة «راديكال» التركية، فى الندوة التى عقدت أخيرا باسطنبول حول الحوار العربى التركى، إذ قال إنه فى حين تعاظمت القوة السياسية والاقتصادية لتركيا، فإن مصر بدت قلعة جرى تفريغها، وأن تمدد تركيا فى الفراغ المخيم على الشرق الأوسط بعد غياب مصر كان المصدر الحقيقى لإزعاج الإسرائيلين. وفى رأيه أن توتر العلاقات بين أنقرة وتل أبيب سابق على حادثة منتدى دافوس (الذى انتقد فيه أردوغان السياسة الإسرائيلية علنا وانسحب من الجلسة الذى كان بيريز متحدثا فيها)، كما أنه سابق على العدوان الإسرائيلى على غزة، وعلى انقضاض إسرائيل على أسطول الحرية وقتل تسعة من الأتراك.

ذلك أن إسرائيل ــ والكلام لايزال له ــ تصورت بعد تنحية مصر وإخراجها من المشهد العربى أن الساحة قد خلت لها وأصبحت بغير منافس. لكنها فوجئت بالصعود والتمدد التركيين وبما يترتب عليهما من ظهور منافس لزعامتها وهيمنتها على المنطقة. وهو ما أثار حفيظتها تماما مثلما حدث مع إيران وأدى إلى استنبات بذرة الحساسية والتوتر بين البلدين، اللذين ربطا بـ59 اتفاقية للتعاون، بينها 16 اتفاقية أمنية وعسكرية. وقد نمت تلك البذرة بمضى الوقت، متغذية بالممارسات والعربدة الإسرائيلية، الأمر الذى أوصل الأمور إلى ما وصلت إليه الآن.

(4)
لأن التاريخ لا ينتظر أحدا، ولكن عجلته تدور بمن حضر فى مجراه وامتلك إرادة الانخراط فى صناعة أحداثه، فإن خروج مصر من المشهد العربى فى ظل تحالفاتها الجديدة، لم يوقف عجلة التاريخ فى الشرق الأوسط. وكل الذى حدث أن اللاعبين تحركوا وفى حسبانهم أن مقعدها القيادى شاغر، ولم يملؤه أحد. وأذكر هنا ــ وأكرر ــ أن من بين المتغيرات الاستراتيجية المهمة فى المنطقة أن إسرائيل وإن بدت أقوى عسكريا، فإنها غدت أضعف بكثير استراتيجيا وسياسيا. بعد فشلها فى كسر إرادة المقاومة فى لبنان وغزة، وبعدما أصبحت تدافع عن نفسها داخل حدودها وليس خارجها، وبعدما فقدت أهم حليفين لها فى المنطقة (إيران وتركيا)، وبعدما خسرت الرأى العام العالمى بعد عدوانها الفج على أسطول الحرية فى المياه الدولية. وتلك عوامل يمكن أن توظف لصالح انتزاع الحقوق العربية إذا وجدت من يحسن استخدامها.

على صعيد المتغيرات الاستراتيجية الأخرى بوسعنا أن نرصد المؤشرات التالية:
ــ اقتراب تركيا من المشهد الفلسطينى عزز من موقع قوى الصمود فى المنطقة. وحين قال وزير خارجيتها مؤخرا إن تركيا هى اليد اليمنى للعرب فإن تلك بدت لغة جديدة تعد امتدادا لكلام مماثل تحدث به السيد أردوغان أمام قمة طرابلس العربية.

ــ عقدت تركيا سلسلة من اتفاقيات التعاون الاستراتيجى مع مجلس التعاون الخليجى، ومع الدول التى تبادلت معها اتفاقيات إلغاء تأشيرات الدخول وتحرير التجارة (سوريا ولبنان والأردن وليبيا والعراق، وهناك اقتراح قدم إلى مصر أثناء الزيارة الأخيرة التى قام بها الرئيس مبارك لأنقرة. وقد وعد بدراسته)
وذهبت تركيا إلى أبعد من ذلك حين أعلنت أثناء انعقاد المنتدى العربى التركى فى اسطنبول عن إنشاء مجلس أعلى للتعاون مع سوريا ولبنان والأردن، وإقامة منطقة حرة لانتقال الأفراد والبضائع فيما بين الدول الأربع.

ــ ثمة تقارب وتفاهم سياسى مشهودين فيما بين تركيا وسوريا وقطر، وكان لقاء قادة الدول الثلاث خلال الشهر الماضى فى أنقرة لمناقشة تشكيل الحكومة العراقية علامة بارزة فى هذا الاتجاه وقرينة على اتساع نطاق التشاور بين الدول الثلاث، بحيث شمل أحداث المنطقة المحيطة.

ــ ثمة تفاهمات مستمرة بين تركيا وإيران وسوريا حول عدد من الملفات المهمة، على رأسها الوضع فى العراق وملف النفط والغاز (إيران تعد المصدر الثانى لتمويل تركيا بالطاقة بعد روسيا) ومشروعات شبكة المواصلات التى تربط بين الدول الثلاث إضافة إلى لبنان والأردن.

ــ تتحدث الدوائر السياسية فى دمشق عن رؤية استراتيجية جديدة يتبناها الرئيس بشار الأسد تسعى من خلالها سوريا لأن تصبح ممرا ومعبرا بين البحور الأربعة: الخليج العربى، الأبيض المتوسط، بحر قزوين والبحر الأسود. وهى تصبح خمسة إذا أضفنا البحر الأحمر. وبمقتضى هذه الرؤية تصبح سوريا عقدة ربط بين الشرق والغرب وبين تركيا والعالم العربى. وقد تحدث الرئيس الأسد فى هذا الموضوع فى أثناء لقائه مع رجال الأعمال فى اسطنبول عام 2004، حين ذكر البعض أن سوريا هى بوابة الأتراك إلى الخليج العربى وأن تركيا بوابة سوريا إلى أوروبا.

قد تكون هذه مجرد تمنيات وأحلام تراود القادة، لكننا يجب أن نتذكر أن حقائق اليوم هى أحلام الأمس. وأن الذين يحلمون يظلون أفضل كثيرا من الذين فقدوا القدرة على الحلم، وشغلوا بتثبيت مقاعدهم عن التطلع إلى المستقبل. إننى أخشى حين يكتب تاريخ المرحلة الراهنة أن ينبرى شاب فى وقت لاحق متسائلا: ألم يكن هناك بلد باسم مصر فى تلك الأيام؟

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved