الصندوق

داليا شمس
داليا شمس

آخر تحديث: الأحد 29 يونيو 2014 - 7:15 ص بتوقيت القاهرة

يتشدقون بعبارات تحث على «التفكير خارج الصندوق»، من اجتماع لآخر ومن برنامج تليفزيونى لحديث صحفى. وكلما اتسعت الرؤية، ضاقت العبارة. وكلما تكررت الدعوة لإيجاد أفكار خارج الصندوق، شعرت أن صاحب الدعوة نفسه من المتربعين على عرش الصندوق والمحبوسين بداخله من سنوات، حتى لم يعد مدركا لذلك.. فهو يستخدم عبارة صارت نمطية بشدة، ويظن أنه قادر على تمييز الأفكار الخلاقة إذا ما طرحت عليه، وهو للأسف ما لن يحدث قط، لأنه لا يقدر على كسر القوالب، بل قد يكون على الأغلب فى صراع دائم مع أصحاب الفكر المغاير. يذكرك هذا الوصف ببعض الأفراد الذين تستمع لهم فى الإعلام أو يعترضون طريقك ليلا ونهارا؟ خذ نفسا عميقا، واخرج الهواء من بين الشفتين.. فعملية الشهيق والزفير تلك قد تساعدك فى الحفاظ على الاتزان الداخلى للجسم والشعور بالارتياح. وقل لنفسك: لما العجب؟! ونحن بالأحرى من مدرسة «سرقوا الصندوق يا محمد، لكن مفتاحه معايا»، كما جاء فى أغنية «دنجى دنجى» لسيد درويش وبديع خيرى، والتى يرجع تاريخها إلى العام 1922. منتهى الفخر أنك لا تزال قابضا على المفتاح، وأنك عطلت فتح الصندوق حتى بعد أن اختفى وأصبح فى يد الغير... شطارة، وفهلوة.

•••

فجأة فى ظرف سياسى واجتماعى ما تظهر ألفاظ ومصطلحات وتنتشر كالنار فى الهشيم، عرفنا العديد منها بعد الثورة وكأن هذه الكلمات كانت تحملنا من مرحلة لأخرى: فى البدء كانت هناك قلة مندسة فى الميدان، ثم ظهر الفلول، وبعدها كان الحديث عن الدولة العميقة.. إلى ما غير ذلك، حتى وصلنا إلى ضرورة «التفكير خارج الصندوق» لإعادة بناء ما فاتنا. وهى مرحلة المفروض أن تختلف عن أيام «الوزير الصندوق» الذى كان ينفذ إملاءات صندوق النقد الدولى، لذا اشتهر بهذا اللقب فى عهد مبارك. لم يأت هو الآخر بجديد، بل ظل محافظا على قواعد الصندوق، لم يحيد عنها وهو عكس المطلوب فى اللعبة التى خرجت إلى العالم بسببها جملة «التفكير خارج الصندوق».

•••

فى ستينيات وسبعينيات القرن الفائت، روج خبراء الإدارة والتسويق لهذه العبارة. ترددت على ألسنتهم، ثم انتقلت للعامة، بل وصارت شعارا لجمعية التفكير الإبداعى الأمريكية. وهى فى الأصل مستلهمة من لعبة النقاط التسع: عبارة عن 9 نقاط أو كرات مصفوفة فى شكل مربع صغير، ويطلب من المتسابق الربط بينها بأربعة خطوط مستقيمة، من دون رفع القلم أو العودة فوق الخط المرسوم مرة أخرى، حتى الانتهاء من الحل. وهو ما لا يمكن الوصول إليه إلا بتجاوز حدود النقاط، فالحل يكمن خارج حدود الصندوق المرسوم وأساليب التفكير التقليدية التى نتقيد بها. الأمر يحتاج لتمرين وتعليم، فلا يكفى أن نردد العبارة ونضع قبلها فعل «يجب» حتى يتأتى لنا ذلك.

•••

ربما يحتاج الشعب أن يقبل على لعب «البازل» puzzle أو القيام بتمرينات ذهنية مماثلة لاكتساب طرق مختلفة فى التفكير. وهو ما سعى إليه أستاذ الأنثروبولجيا بجامعة تورنتو فى كندا ـ الدكتور مارسيل دانيسى ـ عندما خصص درسه لتاريخ ألعاب الـpuzzles ودلالاتها الثقافية. حاول أن يعلم طلابه التفكير من خلال الأحجيات والألغاز التى تساعد على إنماء العقل وتحسين قدراته واستنفار أجزاء المخ الخاصة بالمنطق والتفكير الخلاق، فالتعليم المختلف هو سبيلنا للتعامل مع المواقف المعقدة.. لا تنتشر جملة فى مجتمع من فراغ، حتى لو ابتذلت مع الوقت وتم إفراغها من معناها.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved