السلطة مفسدة

جميل مطر
جميل مطر

آخر تحديث: الأربعاء 29 يونيو 2016 - 9:55 م بتوقيت القاهرة

هناك، فى الأمريكتين وأوروبا وأفريقيا، تمرد واسع على أفراد السلطة الحاكمة. لا أظن أن النخب الحاكمة تعرضت لمظاهر وسلوكيات غضب عام مثل ما تتعرض له هذه الأيام. رأينا التمرد صارخا وفاعلا فى صورة الشعبية التى حصل عليها، بأشكال مختلفة، كل من دونالد ترامب وبيرنى ساندرز فى حملة انتخابات الرئاسة الأمريكية، لمجرد أن الرجلين عبرا بصور متباينة عن الشعور السائد لدى قطاعات أمريكية واسعة بكراهية الرجل العادى للطبقة الحاكمة التى تمثلها قيادات الحزبين الجمهورى والديمقراطى، وغضب شديد على قيادات مؤسسات المال كالمصارف والشركات المالية العظمى المتحكمة فى اقتصاد أمريكا ونظام الحكم فيها.

رأينا التمرد واضحا أيضا وبالغ التأثير فى تطور أحداث الاستفتاء على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبى، غضب فى إنجلترا جسده الانقسام المثير داخل حزبى المحافظين والعمال على «قصة الخروج»، وجسده بشكل أكثر وضوحا الاستقطاب الوطنى على قضية جوهرية تمس عديد المعتقدات السياسية للشعب البريطانى. نراه فى الشرق الأوسط لا يحتاج إلى شرح أو تبرير. لقد كانت ثورات الربيع فى حد ذاتها، وما تزال، تعبيرا عن غضب شعبى عارم على طبقة حاكمة ترفض أن تتغير أو أن تستجيب لحاجة الشعوب إلى الحرية والمساواة والعدالة والكرامة، وما الفوضى الناشبة فى عدد من دول الثورة والتشققات والثورات فى دول عربية ودول جوار إلا الدليل الأنصع على أن تحالف الطبقة الحاكمة يرفض التغيير ويقاوم بالقمع والتعذيب والقتل والإبادة أحيانا. وهى الدليل الأقوى على أن الشعوب ما تزال تلح على ضرورة التغيير رغم الصعاب والمعاناة التى واجهتها منذ نشوب ثوراتها.

رأينا ونرى الشعوب وهى تواجه عناد الطبقات الحاكمة بأعمال مبدعة وأساليب مبتكرة وبأمواج شباب وأجيال أصغر عمرا. أغانى وأهازيج الفلاح فى زمن العبودية والإقطاع المملوكى حلت محلها أغانى شباب المدن.

***

المثير والمفيد فيما رأيناه على امتداد خمس سنوات هى عمر ثورات الربيع العربى ونراه الآن فى أروع تجلياته فى الولايات المتحدة وأمريكا اللاتينية وأوروبا الغربية، هو كيف أن الشعوب قررت أخيرا أن العولمة لم تكن لمصلحتها كما ادعت الشركات متعدية الجنسية والطبقات الحاكمة، أو بمعنى أدق اكتشفت أن نصيبها من العائد السلبى للعولمة كان أكبر جدا من نصيبها من العائد الايجابى، وهو العائد الذى راح أغلبه إلى خزائن ومصالح المصارف والمؤسسات الدولية والشركات الكبرى، ومنها إلى جيوب أفراد الطبقة الحاكمة وحساباتهم البنكية. يبدو أنها قررت أيضا أن العولمة كانت وراء الفساد العميق الذى ضرب الطبقات الحاكمة وكان بدوره، ولايزال، وراء الاستبداد المتصاعد والقمع المتفاقم وإرهاب الدولة، بل الإرهاب بصفة عامة.

* * *

لو عاش اللورد أكتون فى يومنا هذا لما قال بأفضل من عبارته الشهيرة عن الفساد «السلطة مفسدة والسلطة المطلقة مفسدة مطلقة». يقول ماثيو سويف فى حديث له ببرنامج التفكير الحر بالإذاعة البريطانية، أن آكتون نطق بهذه العبارة بمناسبة رغبة المنافقين المحيطين بالسلطة البابوية «تفصيل» قانون يحمى البابوات ويحصنهم لأنهم «لا يخطئون». ومازلنا بعد مائة وخمسين عاما من تصريح اللورد آكتون نصدر قوانين تحمى رجال ونساء السلطة لأنهم لا يخطئون. لم تكن العبارة فتحا فى سيرة التحذير من ظاهرة الفساد، ولكنها أثارت شهية علماء الاجتماع على دراسة الظاهرة، وبخاصة السؤال المتعلق بالعلاقة بين السلطة بأشكالها المختلفة، المنصب والثروة والوجاهة واكتمال الصحة والقوة البدنية والشهرة من ناحية، والسلوكيات المعيبة من ناحية أخرى.

لاحظ الدارسون مثلا أن السيارات الفارهة أو الغالية الثمن أو التى تحمل علامة «ماركات» شهيرة لا تهتم بالمارة فى الشوارع. راقبوا تصرفات سائقى السيارات المرسيدس عند مفترقات الطرق فوجدوا أن أغلبها لا يقف للمارة على عكس أصحاب السيارات المتواضعة، بل لاحظوا سلوكا أهم وأعمق أثرا، لاحظوا أن قادة السيارات الفخمة كثيرا ما يعطون المارين دروسا فى ضرورة احترام حق السيارات الفخمة فى المرور قبلهم ويتولون أحيانا إصدار توجيهات لبعض المارة بالمرور والآخرين بالانتظار. وفى أحيان كثيرة كان قادة هذه السيارات يتجاهلون المارة ولا يهتمون بهم ويتعمدون النظر نحو جهة أخرى غير الجهة التى يقف فيها عامة الناس الراغبين فى «تعدية» الشارع أو تجاوز حالة الانحشار فى زحمة الطريق.

***

ذكرتنى هذه الدراسة الميدانية، وغيرها مما سيأتى ذكره لاحقا، بالكتاب الرائع الصادر فى سنوات الستينيات لعالم الاجتماع السياسى «سى رايت ميلز» تحت عنوان نخبة القوة أو السلطة، وهو الكتاب الذى أطلق العنان لعلماء عديدين لدراسة أصول الطبقة الحاكمة فى أى مجتمع سياسى. يقول رايت إن الطبقة الحاكمة فى الولايات المتحدة قامت على ائتلاف يضم ممثلى النخب العسكرية والسياسية والمالية فى المجتمع الأمريكى. لعب الكتاب كذلك دور الباب الذى دخل منه كثيرون لإثبات أن هذا النوع من الائتلافات الحاكمة هو الطريق الأسرع للنازية والفاشية، بحكم أن النازية وغيرها من نظم الاستبداد قامت وتقوم على أكتاف ائتلافات مماثلة.

ثم جاء عالم الاجتماع الشهير سوروكين الذى درس النخبة الحاكمة فى موسكو مؤكدة ما أشار إليه سى رايت ميلز، مع إضافة اكتشافه أن أغلب أعضاء النخب الحاكمة يعانون من مرض «السلطة»، هم فى العادة أكثر ذكاء من الناس العاديين ولكن مصابون بحالات «انحراف» عقلى لا توجد بنفس النسبة بين طبقات المحكومين. أظن أن سوروكين وأتباعه اعتقدوا أن السلطة المطلقة تصنع فى عقل الحاكم المطلق «عوالم» خيالية أو متخيلة تبعده يوما بعد يوم عن الواقع والحكم الرصين.

يعود الفضل لعالم الاجتماع ايوجين Jennings فى دراسته لأكثر من مائة وستين من رجال الأعمال والمديرين والقادة السياسيين فى اكتشاف أن هؤلاء القادة من رجال السلطة والنفوذ يعتقدون أن الحرص على إقامة صداقات والمحافظة عليها دليل ضعف، وينصحون بأنه لا يجوز اختيار رجل سلطة أو حكم يؤمن بالصداقات ويحبذها أو يكثر منها. اكتشف أيضا أن معظم القادة يقدمون المصلحة الشخصية على المصلحة العامة فى حال تعارضتا. فى دراسة ميدانية أجراها Keltner الأستاذ بجامعة بيركلى على مجموعة من قادة السياسة والإدارة وجد أن إنتاج الفرد منهم يقل إذا شارك فى عمل جماعى، ومهاراته فى الخلق والإبداع تنحسر. أما السبب، حسب خلاصة الدراسة، فهو أنه إذا عمل ضمن جماعة فسوف يهتم أكثر شىء بالبحث عن موقع قيادة وسلطة يفرض منه زعامته على الجماعة. فى دراسات أخرى وجد الأستاذ كيلتنر أن عضو النخبة أو الإدارة العليا لا يهتم كثيرا بلغة التخاطب مع مرءوسيه ولا يخصص وقتا للاستماع إلى مشكلاتهم. وجد أيضا وللغرابة الشديدة أن عضو النخبة الحاكمة، ملكا كان أم رئيسا أم وزيرا أم محافظا أم مسئولا فى المجلس المحلى، كثيرا ما يميل إلى تحميل الشعب مسئولية الأخطاء والفشل فى الحكم، وأن عضو الإدارة العليا كثيرا ما يميل إلى تحميل مرءوسيه أو المستهلكين والعملاء مسئولية عدم تحقيق أهداف الشركة أو المؤسسة.

* * *

أغلب الدراسات الميدانية الصادرة عن جامعة بيركلى تؤكد أن الفقراء أو الأقل حظا أكثر عطاء ورغبة فى التطوع والعمل الخيرى، تؤكد أيضا أن أهل السلطة يعتقدون أن الفقراء أقل ذكاء منهم، وقد تحمس علماء اجتماع ألمان لإجراء دراسات تثبت عكس ما توصل إليه الأكاديميون ذوو التوجهات النيو ليبرالية، مثل أن الأغنياء هم الأكثر عطاء واستعدادا للتطوع. سقطت أكثر هذه الدراسات تحت أول امتحان للإحصاءات والمناهج الأكاديمية التى اعتمدت عليها، ثم سقطت سقوطا مدويا تحت اكتساح توماس بيكيتى وجيل من الاقتصاديين الجدد لساحات البحث فى القضايا الناتجة عن اتساع فجوة اللامساواة وفى صدارتها قضية الفساد، وبخاصة فساد النخبة الحاكمة. فسادها، كما نعلم الآن وبثقة كاملة، ناتج عن سوء توزيع للثروة وعلاجه عدالة اجتماعية عاقلة وموازنة. ناتج أيضا عن سوء توزيع الحق فى المشاركة السياسية، أى فى السلطة، وعلاجه ديمقراطية حقيقية وحريات أوفر، وكلاهما كانا وما يزالان من مطالب ثورة الربيع الذى، وفى ضوء تطورات حملة الانتخابات الرئاسية الأمريكية وقصة الخروج البريطانى وانتفاضة القوميين الأوروبيين وفوضى الحكم الضاربة اطنابها فى امريكا اللاتينية، لم يعد ربيعا عربيا صرفا.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved