أصداء إيجابية للاستراتيجية المصرية حيال ليبيا

بشير عبد الفتاح
بشير عبد الفتاح

آخر تحديث: الإثنين 29 يونيو 2020 - 8:05 م بتوقيت القاهرة

إبان جولته التفقدية للوحدات القتالية بقاعدة محمد نجيب العسكرية القريبة من الحدود الليبية يوم 20 يونيو المنقضى، والتى أشاد خلالها بمستوى تسليح وكفاءة وجهوزية القوات المسلحة بما يخولها حماية وتأمين البلاد، أرضا وشعبا ومقدرات، من جميع التهديدات على مختلف الاتجاهات الاستراتيجية، موجها إياها بالاستعداد للاضطلاع بأى مهام فى داخل البلاد أو خارجها إذا استدعى الأمر، أعلن الرئيس السيسى ما يمكن اعتباره استراتيجية مصرية للأمن القومى لجهة التعاطى مع الأزمة الليبية، وفقا لآليات لا تستبعد الخيار العسكرى، استنادا على مرتكزات عديدة، من أبرزها:
ــ شرعية التحرك: فانطلاقا من التزامها الراسخ والمتواصل بميثاق ومقررات الأمم المتحدة ومبادئ القانون الدولى، تحرص مصر على ألا ينأى أى إجراء عسكرى تضطر إلى اتخاذه فى ليبيا لحماية أمنها القومى

عن مظلة الشرعية الدولية، بحيث يتوافق مع المادة 51 من ميثاق المنظمة الأممية، التى تكفل الحق الطبيعى لأعضائها، فرادى أو جماعات، فى الدفاع عن نفسها، داخل أو خارج حدودها، إذا ما تعرض أمنها القومى للتهديد أو العدوان من قبل دول أو كيانات أخرى، مثلما يأتى تلبية لنداء السلطات الليبية الشرعية المنتخبة ممثلة فى مجلس النواب، ومجلس مشايخ القبائل الليبية الذى يرى فى معاهدة الدفاع العربى المشترك، المبرمة مطلع خمسينيات القرن الماضى، غطاء شرعيا للتحركات المصرية العسكرية الرامية إلى تحرير ليبيا من الاحتلال التركى وأذنابه.
ــ نبل المقاصد: فلقد حددت مصر حزمة أهداف استراتيجية تتوخى بلوغها من وراء أى تدخل اضطرارى مرتقب فى ليبيا. أولها، حماية وتأمين الحدود الغربية للدولة المصرية من أخطارالميليشيات الإرهابية والمرتزقة، الذين يشكلون تهديدا حيويا، ليس فقط للأمن القومى المصرى والعربى والأوربى، وإنما أيضا للسلم والاستقرار الدوليين.وثانيها، دعم الجهود الهادفة لاستعادة الأمن فى ليبيا، باعتباره جزءً من الأمنين المصرى والعربى. وثالثها، حقن دماء جميع الليبيين، بتهيئة الظروف لوقف فورى لإطلاق النار، ومنع مختلف الأطراف من تجديد المواجهات. ورابعها، إطلاق التسوية السياسية الشاملة، برعاية أممية، ووفقا لمخرجات مؤتمر برلين.أما خامسها، فيتجلى فى منع تموضع أية قوات أجنبية على الأرضى الليبية، علاوة على احتواء الأخطار المنبعثة من أطماع دول الجوار العربى الإقليمى كتركيا وإيران وإثيوبيا وإسرائيل، فضلا عن الحيلولة دون تحول أى من الدول المحيطة بمصر إلى دولة فاشلة، خصوصا ليبيا، التى تمتد حدودها الجغرافية معها بطول1260 كم، فيما غدت مرتعا، ليس فقط للقوى الدولية والإقليمية، وإنما أيضا للميليشيات والمرتزقة والتكفيريين الموالين لتركيا.
ــ خطوط حمر: ففى رد حاسم على إعلان الرئاسة التركية رهن التوصل لوقف دائم لإطلاق النار فى ليبيا بانسحاب الجيش الوطنى من مدينتى سرت والجفرة، خطت مصرخطا يمتد بين المدينيتن، اللتين يتمركز فيهما الجيش الليبى منذ العام 2017، باعتباره «خطا ميدانيا أحمر«، لن تسمح بتجاوزه من قبل أى طرف.ولا تقتصر أهمية محور «سرت ــ الجفرة« على كونه يمثل المدخل الغربى للمنطقة الشرقية، فعلاوة على احتضانها ميناءً وقاعدة عسكرية مهمة، تعد سرت البوابة الرئيسية لمنطقة الهلال النفطى، الذى يحوى 80% من احتياطيات الطاقة الليبية المقدر حجمها بأكثر من 45 مليار برميل نفط، و52 تريليون قدما مكعبا من الغاز، فيما تنتج حقوله مجتمعة نحو 60% من إجمالى إنتاج البلاد النفطى، كما تضم أكبر مجمعات تكريره وموانئ تصديره عالميا. أما منطقة الجفرة التى تمثل قلب البلاد، فتشكل مفتاح السيطرة على الهلال النفطى، وبشمالها تقع قاعدة الجفرة الجوية ؛ التى تعد من كبريات القواعد العسكرية بالمنطقة الوسطى، حيث تضم مهابط للطائرات؛ بما فيها طائرات الشحن الضخمة، ودشما ومنطقة سكنية، وبمقدورها استيعاب عدد كبير من الطائرات والجنود والتجهيزات.
ــ إشراك الليبيين، حيث شدد السيسى على أن القوات المصرية لن تدخل ليبيا، إلا برفقة شيوخ وأبناء القبائل الليبية، لافتا إلى أن الجيش المصرى سيقوم بتدريب شباب تلك القبائل وتسليحها حتى يصبحوا مؤهلين للمشاركة فى تحرير بلادهم، الأمر الذى لقى ترحيبا حارا من جانب رئيس المجلس الأعلى للقبائل والمدن الليبية، فيما أعلنت قبائل المرابطين والأشراف الليبية قيام 68 قبيلة بإعداد قوائم بأسماء المرشحين. وبينما يبدد حرص القاهرة على إشراك الليبيين فى إنقاذ بلادهم أية شكوك قد تكتنف التدخل المصرى المحتمل فى ليبيا، تنم تلك الخطوة عن حصافة مصرية وفهم عميق لخصوصية الحالة الليبية، التى ما برحت القبيلة تضطلع بدور مهم فى رسم مشهدها، بمختلف أبعاده، إذ ما برح ليبيون كثر يعلقون نجاح أية تسوية لأزمتهم على توفر التفاهم القبلى الذى يضمن تطبيق بنودها على أرض الواقع.، لاسيما بعد أن نجحت المجالس القبلية فى إبرام ثمانية وستين صلحا، تخللها تبادل للأسرى فى ثمان وثلاثين منها، وذلك من أصل أربعة وسبعين نزاعا محليا مسلحا طفقت تفت فى عضد البلاد والعباد منذ العام 2011.
ــ عدم التموضع: حسنا فعل الرئيس السيسى حينما شدد على ترفع مصر عن أية مآرب أو مطامع تتصل بالتموضع الاستراتيجى داخل ليبيا، حالة اضطرارها للتدخل عسكريا هناك بغية استعادة الدولة الوطنية الليبية ومؤسساتها، فرض الأمن والاستقرار، الحفاظ على مقدرات الشعب الليبى الشقيق، وصون الأمن القومى المصرى بالعمق الغربى، مؤكدا التزام القوات المصرية بالانسحاب بسلام فور إنجاز تلك المهام.ولعل التاريخ يشهد على صدق النوايا المصرية بهذا الخصوص، فلكم اضطلعت القوات المصرية بمهام عسكرية خارجية دعيت إليها وأدتها على الوجه الأكمل دونما تطلع إلى تموضع عسكرى أوطمع فى غنائم.فإلى جانب المشاركة المشرفة فى قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة، فرضت الظروف الإقليمية والدولية على مصر المشاركة فى ثلاثة حروب خارج أراضيها:كانت أولاها، إبان حرب اليمن (1962ــ1967 )، حينما أرسلت زهاء 70,000 مقاتل لدعم الثورة اليمنية حتى انتصرت وأعلنت الجمهورية عام 1968.وثانيتها، أثناء الحرب الأهلية النيجيرية ــ البيافرية (1969ــ1970)، واستجابت خلالها مصر لاستغاثة الجنرال يعقوب كوون، رئيس المجلس العسكرى الحاكم وقتذاك، لصد غارات الجنرال أوجوكو قائد محاولة الولايات الجنوبية للانفصال وإعلان جمهورية بيافرا، وأرسلت طياريين مصريين قادوا مقاتلات نيجيرية روسية الصنع من طراز ميج 19، وأنشأوا كلية للطيران فى لاجوس لتدريب الطيارين النيجيريين خلال الحرب، التى انتهت بانتصار القوات الفيدرالية وهروب أوجوكو إلى ساحل العاج ، ووأد محاولة انفصال بيافرا. أما ثالثتها، فكانت حرب الخليج عام 1991، التى انتهت بتحرير الكويت من الاحتلال العراقى، بعدما تصدرت القوات المصرية الجبهات وأبلت بلاء حسنا، أشاد به العرب والعجم.
ــ الردع الاستراتيجى: فعلاوة على طمأنة الداخل المصرى على كفاءة جيشه، المصنف التاسع عالميا والأول عربيا وشرق أوسطيا وأفريقيا، متفوقا بذلك على جيوش إسرائيل وتركيا وإيران، بعد تقدمه ثلاثة مراكز دفعة واحدة بآخر قائمة للتصنيف العالمى لموقع «جلوبال فاير باور« لأقوى جيوش العالم، الذى يستعين بخمسين معيارا لتحديد «مؤشر القوة« لكل جيش، تتنوع ما بين القوة العسكرية والمالية إلى القدرة اللوجستية والعملياتية، أكد السيسى أن الجيش المصرى قادر على الدفاع عن أمن وسيادة البلاد، داخل وخارج حدودها، لافتا إلى أن صبر مصرعلى التهديدات المنبعثة من ليبيا، أو غيرها، ليس مؤشرا على تردد أو تهاون، بقدر ما هو نتاج عارض للدراسة المتأنية للموقف والحرص على استجلاء حقيقة الأمور قبل اتخاذ القرار الحاسم للتعامل بالطريقة المناسبة فى الزمان والمكان الملائمين.بذلك، جاءت رسالة الردع الاستراتيجى الاستباقى مباشرة وصارمة حينما أطلقها السيسى مدوية فى حضرة جميع قيادات القوات المسلحة، ومن داخل قاعدة عسكرية يعى الجميع قدرها.
يبدو أن الرصانة والصدقية التى اكتست بهما استراتيجية الأمن القومى المصرية إزاء ليبيا، وما استتبعته من ارتياح شعبى مصرى، وتأييد عربى ودولى، وترحيب ليبى على مستوى الجيش الوطنى ومجلس النواب ومشايخ القبائل، كانت كفيلة فى مجملها بتهيئة الأجواء كى تؤتى أكلها وتدفع بغالبية الأطراف المنخرطة فى الأزمة الليبية نحو كبح جماح الاندفاعات العسكرية وإفساح المجال للمقاربات السياسية على أساس محادثات 5+5، مبادرة القاهرة، ومسار برلين.وبموازاة استباق الجيش الوطنى الليبى هجمات معادية وشيكة فى سرت، بتكثيف الاستعدادات وفرض سيطرة جوية بإقامة منطقة حظر طيران فى سماء المدينة الاستراتيجية، حذر السفير الأمريكى لدى ليبيا كما قائد القوات الأمريكية فى أفريقيا من أن يفضى استمرار العنف إلى عودة تنظيمى داعش والقاعدة الإرهابيين إلى ربوع ليبيا، وتنامى الانقسام المجتمعى، وإطالة أمد المعاناة الإنسانية لليبيين.الأمر الذى يشى بإمكانية إقدام واشنطن على رفع مظلتها عن الخروقات والانتهاكات التركية التى تكرس عسكرة الأزمة الليبية كما سائر التفاعلات على مستوى منطقة شرق المتوسط برمتها.
وفى استجابة سريعة ومبشرة، أقر البرلمان العربى قبل ايام، استراتيجيتين للتعاطى مع إيران وتركيا، دعتا إلى بحث تجميد شتى صنوف التعاون الاقتصادى معهما، وتفعيل مجلس الدفاع العربى المشترك، على أن تتم مراجعة وتحديث هاتين الاستراتيجيتين كل خمس سنوات، بما يتناسب مع مستجدات البيئتين السياسية والأمنية. ودعت الشعبة البرلمانية إلى ضرورة صياغة استراتيجية عربية موحدة للتعامل مع دول الجوار الإقليمى، تتيح اتخاذ مواقف عربية حازمة للتصدى لأية محاولات من قبلها لتهديد أمن وسيادة الدول العربية، مناشدة الجامعة العربية رفع مذكرة لمجلس الأمن الدولى بشأن السياسات العدائية والنزعات التوسعية لتلك الدول، وتطالبه بحملها على وقف انتهاكاتها حيال الدول العربية.
الحاصل، والحال هذه، أن بمقدوراستراتيجية الأمن القومى المصرى إزاء ليبيا، والتى يمكن لنطاقها أن يصير أرحب بحيث تشمل جميع أبعاد وملفات السياسة الخارجية المصرية كما مختلف المخاطر والتهديدات على مستوى الاتجاهات الاستراتيجية الثلاثة الأخرى، إرساء دعائم رواسى لاستراتيجية أوسع وأشمل للأمن القومى العربى، تعيد بدورها تحديد الأولويات وتكفل تسليط الضوء على مختلف التهديدات والمخاطر، التقليدية منها والمستحدثة، على جميع الصعدوالاتجاهات، حتى يتسنى للعرب لملمة شتاتهم، واستنهاض المتعثر من دولهم، وترميم تصدعات نظامهم وعملهم المشترك، بما يعينهم على درء الأطماع المتفاقمة لدول جوارهم الإقليمى، التى تلاقت مخططاتها للنيل من سيادة واستقرار بلادنا، والتأمت مآربها ومساعيها لتقويض مكتسباتها واستنزاف مقدراتها.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved