حوار مفتوح: نحو مرحلة جديدة فى العمل العربى المشترك.. شروط القيادة.. تجديد اللغة: مدخلا للعروبة الثقافية الجديدة

نبيل عبدالفتاح
نبيل عبدالفتاح

آخر تحديث: الإثنين 29 يونيو 2020 - 8:05 م بتوقيت القاهرة

فى مواجهة التحديات والعقبات التى تمنع انطلاق مرحلة إيجابية جديدة فى العمل العربى المشترك، دعت «الشروق» عددا من الكتاب والمفكرين والمتخصصين العرب لإجراء حوار بشأن الشروط التى يجب توافرها فى دولة أو ائتلاف عربى يتولى مهام القيادة فى النظام العربى ويتغلب على هذه التحديات. وكان أول من استجاب لدعوتنا المفكر العربى الكبير ووزير التربية والتعليم الأسبق فى دولة البحرين الدكتور على فخرو. وبطبيعة الحال فإن الآراء المنشورة فى سلسلة مقالات «حوار مفتوح: نحو مرحلة جديدة فى العمل العربى المشترك.. شروط القيادة» تعبر عن أصحابها فقط وليس عن وجهة نظر «الشروق».
إن نظرة على مشاهد الثقافة والأحرى الثقافات العربية، تشير إلى انعكاسات الأوضاع السياسية القمعية على العقل والضمير العربى المحاصر، وأثر ذلك على الإنتاج النظرى، والإبداعى ودورانه فى فلك الثنائيات الضدية حول التراث والمعاصرة، ومحاولات نقد الموروث عموما، والدينى على استحياء والانشغال بقضايا الهويات المتنازعة فى علاقاتها بالدين، لم يقتصر العقل العربى ــ والأحرى أنماط العقول العربية ــ على المعتقل العقلى السلطوى والدينى الرسمى، وإنما معتقل حصار الجماعات الإسلامية السياسية والسلفية، واتهاماتها المرسلة بتكفير المغايرين لها فى الرأى، ومعتقل تدين العوام الوضعى من فئات اجتماعية عريضة الذى شكل ولا يزال حصارا واسعا وخطيرا للفكر الحر والضمير الحر. والحقوق الدينية للأقليات.
ثمة رهابّ سلطوى ودينى إزاء المفكر والمثقف الحر، وخوف عميق من الأسئلة والتشكيك التاريخى البحثى فى أصول وتشكلات المعتقدات الوضعية الشعبية السائدة ونقد بعض الآراء الفقهية الشائعة، ومدى صوابيتها، وفى نقد السياسات التسلطية، والدينية وخطاباتها الوضعية التى تبدو وكأنها الحاملة لمفاتيح السماء، والناطقة باسم المقدس والعياذ بالله، والتى تعمل لفرض نواميسها التأويلية الوضعية شبه المقدسة على العقل والفكر والضمير.
لا شك أن حالة العقل والضمير الحر المحاصر، كرستها أيضا سياسة تهميش الثقافة العالمية والمثقف والقطيعة المزدوجة بين الفكر العربى وبين التراثات العربية كمعطيات تاريخية ونقدها، وبين المتابعة النقدية لتطورات الفكر العالمى، فى عديد مدارسه، وساهم فى ذلك أن ثمة ابتسارات وتشوهات فى نقل واستعارة وترجمة المراجع التأسيسية للفكر الفلسفى والاجتماعى والقانونى والأدبى منذ نهاية القرن التاسع عشر، الأمر الذى أدى إلى هشاشة المعرفة بالإنتاج المعرفى الغربى، وقطائعه المعرفية، وأدى ذلك إلى فوضى مفاهيمية واصطلاحية، والاستثناءات محدودة مذاك، وإلى الآن. من هنا نستطيع فهم الجمود النسبى فى الحياة العقلية العربية. من ناحية أخرى تبدو السياسات الثقافية العربية نازعة إلى توظيف الثقافة والمثقف السلطوى، لصالح السياسة التسلطية والشمولية، وتخصيص الجوائز الوطنية... إلخ. لحجر هؤلاء فيما وراء خطاب التأييد والدعم للسلطات الحاكمة. بعض دول اليسر استطاعت تخصيص بعض الأنشطة والتظاهرات الثقافية، والجوائز السخية ــ من منظور مثقفى ومبدعى دول العسر ــ وعديد المؤتمرات، والندوات، فى محاولة لإزاحة المكانة التاريخية عن بعض دول العسر، التى غادرتها بعض من الحيوية الثقافية لعديد الأسباب.
***
هذه السياسات، غفلت عن أن الدور والمكانة، تعتمد على تراكمات ومواريث ثقافية ومعرفية تاريخية، على رأسها الهياكل الثقافية، والأهم وجود قاعدة واسعة للإنتاج الثقافى الذى يعتمد على المورد البشرى المنتج للمعرفة والإنتاج الفلسفى والاجتماعى، والبحثى، ورأسمال ثقافى إبداعى طويل وممتد، وهو ما لم تستطع هذه السياسات أن تحققه، على الرغم من الإنفاق على بعض الأنشطة كأحد أشكال التجميل الرمزى وذلك لعدم توافر شرائط الدور والمكانة على الرغم من المؤتمرات والجوائز، ومعارض الكتب والبرامج التلفازية وهو أمر به بعض من الإيجابية لهذه الدول لكن فى حدودها. إن سياسة الإزاحة للمراكز التاريخية لإنتاج الثقافة والمعرفة ــ مصر والمشرق العربى ــ اعتمدت على بعض من الاختيارات لمثقفى المشرق ثم الالتفات عنهم إلى استدعاء بعض مثقفى ومبدعى المنطقة المغاربية، وهو أمر يبدو إيجابيا فى ظاهره وسلبيا فى مضمره. قصارى ما حدث فى أعقاب تراجع انتفاضات الربيع العربى وفشلها، أن أغلقت عديد من المجلات، وبعض المنابر الورقية، وتراجع أدوار المثقفين العرب فى ظل موت السياسة، وكرس هذا التراجع والصمت جائحة كورونا، والتحول إلى الفضاء الرقمى، وكتابة خطاب التغريدات، والمشاركات Posts أو بث مقاطع الفيديو، أو تدوير بعض الكتب الرقمية، أو التعليقات.. إلخ. فى ظل وضعية العقل الصامت المحاصر ساد خطاب النميمة الثقافية، وانقطع التواصل الاجتماعى الفعلى بين بعض الجماعات الثقافية العربية. إلا أن بعض الجادين يتبادلون الرؤى والأفكار والمقالات والكتب والقصائد والروايات والقصص إلخ.
الأخطر أثر السياسة الغشوم البالغ السلبية على الموحدات الجامعة العابرة للثقافات العربية من خلال سياسة شد العصب المذهبى والدينى والعرقى والقبلى والمناطقى ومعه الثقافة الوطنية.
الخطاب القومى حول الثقافة العربية والهوية الجامعة، واللغة العربية تراجع نسبيا ــ من أسف وأسى معا ــ لصالح خطاب الثقافات العربية، وتعبيراتها الهوياتية وسردياتها وتاريخها المقموع، الذى انفجر فى ظل هشاشة الوطنيات «الحديثة» التكوين.
على الرغم من بعض سلبيات هذا الخطاب/ الخطابات العربية، واللغوية، وما وراءها من خطابات إلا أنها كشفت فى بعض جوانبها عن جوانب ثراء فى حيوية المكونات الهوياتية والثقافية التى تنطوى عليها الموحدات الجامعة العابرة لهذه المكونات، والتى كشفت عنها عديد السرديات الروائية والقصصية والمسرحية والفنون التشكيلية ــ التصوير والنحت والأعمال المركبة ــ وفى السرد البصرى السينمائى، وفى الدراسات السوسيولوجية ــ أيا كان الرأى فى غالب مستوياتها العلمية.
ساهمت ثورة وسائل التواصل الاجتماعى فى مد جسور التبادل فى الروئ والأفكار، والكتابات، والمشروعات بين بعض مكونات الجماعات الثقافية والبحثية، والمبدعين على اختلاف مجالاتهم. لم تعد الأنظمة الرقابية قادرة على كبح وفرض القيود على الفكر نسبيا، ومن ثم منع الكتب، والأفكار عند حدودها، وذلك بفضل اتساع حريات المجال العام الرقمى، وبقطع النظر عن بعض سلبيات أنماط العقل الرقمى الغوغائية.
من هنا نستطيع القول إن حرية المجال العام الرقمى، تساعد على تجديد أواصر الهوية العربية الجامعة وهوياتها الأخرى التى تتفاعل معها فى جدل وتوتر، يمكن أن يكون ذا طبيعة خلاقة.
***
العقل العربى يحتاج إلى تنشيط من خلال مبادرة قومية طوعية، يشارك فيها بعض كبار رجال الأعمال المهتمين بالثقافة، وبعض المنظمات الأهلية العاملة فى مجالاتها، وذلك لتحقيق ما يلى:
أولا: تبنى سياسة للترجمة، ترمى إلى سد الفجوات المعرفية الناتجة عن تشوهات وابتسارات الترجمات منذ نهاية القرن التاسع عشر وإلى الآن، من خلال ترجمة جذور وتطورات البنى الجينولوجية لتطور الفكر الفلسفى والاجتماعى والقانونى والأدبى... إلخ. ومواكبة التطور الجديد فى مجال الذكاء الصناعى والرقميات، وذلك لا غناء عن اللغة العربية من خلال الاستعارات اللغوية للمصطلحات والمفردات، وهو أمر كونى يتم بين اللغات الكبرى من خلال ما يطلق عليه بعضهم الاقتراض اللغوى.
ثانيا: تطوير الدراسات اللغوية والسياسات اللغوية، من خلال إعادة النظر فى الأبنية النحوية وتبسيطها، ورفد قاموسنا العربى بالمفردات الجديدة وذلك من خلال التنسيق بين مجامع اللغة العربية، ومراكز بحوثها، بالدعم المالى لمشروعاتها، والمساعدة على تطوير المعاجم العربية وتوحيدها. والعمل على إصدار معجم جديد للغة الذكاء الصناعى، الرقمنة.
ثالثا: دعم الدراسات البحثية عن السياسات الثقافية العربية، وتطويرها، وخاصة من خلال رؤى إرشادية عن أوضاع كل حالة من الحالات العربية.
رابعا: التركيز على الدراسات الخاصة بإنماء المعرفة والوعى اللغوى لدى طلاب المدارس والجامعات العربية.
خامسا: إجراء البحوث حول العلاقات بين اللغة العربية واللغات المحلية «العامية» التى تتمدد، وتجد من يدافع عنها، وهو ما كان الاستعمار البريطانى يدعمه فى مصر، ولم يحقق أى نجاحات، على الرغم من أن بعض كبار المفكرين المصريين أيدوا هذه الدعوة التى أخفقت.
سادسا: التركيز على عقد بعض المؤتمرات الأساسية حول مشاكل الثقافة العربية الراهنة.
سابعا: تطوير سياسة لرقمنة الثقافة وسلعها المختلفة، وتبادلاتها، من خلال المؤتمرات والندوات الرقمية.
ما سوف يساعد على تحقيق ذلك التركيز على تنظيم المجموعات الرقمية العربية فى عديد المجالات، وتيسير عمل مواقعها، وتفاعلاتها.
إن هذه المبادرة أولية وأهلية وهناك أفكار أخرى لتطويرها لتساعد على تجسير الفجوات، وتؤدى إلى تجديد وبناء الموحدات العابرة للقطريات والهويات الأخرى، كروافد للإثراء والتجديد للهوية الجامعة، وفى إطار اللغة العربية التى تواكب تطورات لغات عصرنا. اللغة الواحدة الجامعة وتجديدها مدخلنا إلى تجديد العروبة الثقافية التى تشكل المدخل الأساسى لتجديد الفكرة العربية الجامعة.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved