حب وكوليرا عند باب المندب

داليا شمس
داليا شمس

آخر تحديث: السبت 29 يوليه 2017 - 9:15 م بتوقيت القاهرة

بالقرب من باب المندب تدور حرب منسية لا يتحدث عن تفاصيلها الكثيرون، على الرغم من أن خسائرها فى سنتين أفدح من الصراع السورى بعد خمس سنوات من بدايته، وفقا لبعض المراقبين والمنظمات الإنسانية، وأن الوضع الكارثى فى اليمن يجعلها على رأس قائمة الدول المنكوبة. أتابع أخبار تفشى الكوليرا هناك، فى 19 محافظة، منذ شهر إبريل الماضى، ووصول عدد الحالات المشتبه فيها إلى 300 ألف، من بينها 1700 شخص لاقوا حتفهم بسبب الوباء، ليلحقوا بنحو ثمانية آلاف قتيل وأكثر من 44 ألف جريح سقطوا فى المعارك. وتلقائيا أفكر فى قصص الحب التى قد تأخذ مداها فى زمن الكوليرا، وكأن رائعة ماركيز «الحب فى زمن الكوليرا» تتكرر بصور أخرى فى القرن الحادى والعشرين، عند مضيق يفصل بين قارتى آسيا وإفريقيا، حكم عليه اسمه بالحزن وعلى من سكن إلى جواره، إذ يسمى أيضا «بوابة الدموع». هناك عدة روايات تتعلق بالتسمية، فيقال مثلا إن البحارة قديما كانوا يندبون أمواتهم فيه، بسبب المخاطر التى تحيط بالمنطقة لوجود الشعاب المرجانية والجزر الصغيرة. وهناك من يربطه بتاريخ معركة بين الأحباش وذى نواس، أسفرت عن هروب الأحباش إلى اليمن، بعد أن عبروا المضيق وهم يندبون أمواتهم. وفى رواية ثالثة، كان العرب يغزون الأفارقة ويستعبدوا أولادهم وبناتهم، ثم يقومون بنقلهم إلى الجزيرة العربية من خلال هذا المضيق، فكانت الأمهات تبكين وتندبن فراق أولادهن. أما التفسير الأخير فمرتبط بحدوث هزة أرضية فصلت آسيا عن إفريقيا، وأدت إلى غرق الكثيرين. 

***

أتخيل المشاعر والقصص التى تنسج خيوطها فى هذا الزمن الغابر، على بعد نحو 30 كيلومترا من الممر البحرى الهام، الذى زادت أهميته بعد حفر قناة السويس واكتشاف النفط فى منطقة الخليج. لا علاقة للموقع الجغرافى بطبيعة جزر الكاريبى حيث كانت تدور أحداث رواية ماركيز فى نهاية القرن التاسع عشر، لكن هناك أجواء تفشى الكوليرا والحروب والصراعات السياسية، وهناك قطعا الحب الذى يتحول فى مثل هذه اللحظات إلى وسيلة مقاومة فى وجه العنف والديكتاتورية، إلى نزعة نحو الحياة فى مواجهة الموت. 
نحو سبعة ملايين يمنى على شفا المجاعة، لا غذاء، لا مياه نظيفة، لا كهرباء، لا طواقم طبية كافية، لا أدوية... أحيانا يوضع كل أربعة مرضى فى سرير واحد لعدم وجود أماكن فى المستشفى، صنعاء ومحافظات الشمال الغربى الواقعة تحت سيطرة الحوثيين من أنصار الرئيس السابق على عبدالله صالح، مفروض عليها حظر كامل من قبل التحالف العربى بقيادة السعودية، لكن المشاعر والرغبة فى الاستمرارية لا تتوقف. يقوم الأهالى بفتح سوق تجارى جديد فى العاصمة مع نهاية عام 2016، ويزداد عدد خطوط المواصلات بين عدنو صنعاء، وكذا القدرة على التأقلم. والحب فى مثل هذه الحالات هو إحدى أهم وسائل الصمود، فالناس عادة ما تتجه إلى قيم أساسية ثابتة مثل الحب لكى تعطيها درجة من الطمأنينة والأمل فى المستقبل، فى غياب الأمن والاستقرار السياسى. 

***

هذا ما يجعلنى أتخيل مجددا أبطال قصص حب فى مجتمع له خصوصيته، هل أحد البحارة الذى كان يمر سابقا بباب المندب ذهابا وإيابا دون أن يعلم أنه بوابة الوداع؟ أم تلك السيدة التى قرأنا قصتها فى إحدى الصحف الأجنبية، وقد هربت عبر المضيق إلى مخيم لاجئين فى جيبوتى، مقابل دفع مائة دولار، بعد مقتل 22 فردا من عائلتها فى قصف متبادل بين طرفى النزاع، دون أن تنتمى لأى من المعسكرين، بل هى تكرههما معا؟ أم تكون قصة الحب بين فتاة من الجنوب وشاب من الشمال، ينتميان لعائلات يساند بعضها صالح والحوثيين، والبعض الآخر فريق الرئيس عبدربه منصور هادى وحلفاءه؟ أم طبيب يبكى حبيبته المصابة بالكوليرا دون أن يوفر لها المحلول اللازم لتعويض ما فقده جسمها من سوائل؟ هل سيتمكن الحبيبان من الإبحار سويا فى سفينة ويرفعا عليها علما يفيد بتفشى الكوليرا بين الركاب، فلا يستوقفهما أحد حتى يعبرا باب المندب، كما فعل أبطال رواية ماركيز؟ وهل سيكون لتنظيم القاعدة دور فى الأحداث؟
يحمل القدر لشخصياته العديد من المفاجآت والتشابك، فلا تعرف الأمهات أحيانا هل كان أولادهن ضحية الحب، أم الكوليرا، أم الحرب التى لا ناقة لهن فيها ولا جمل، وفرضت عليهن فرضا فى إطار سنى شيعى أكبر منهن ومن جيرانهن. هى حرب منسية، مكتومة الصوت، مبعثرة الأشلاء، أعادت الدموع والأوبئة إلى باب المندب.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved