كل شىء يتداعى

من الفضاء الإلكتروني «مدونات»
من الفضاء الإلكتروني «مدونات»

آخر تحديث: الأربعاء 29 يوليه 2020 - 6:50 م بتوقيت القاهرة

نشرت مدونة الديوان التابعة لمركز كارنيجى مقالا للكاتبة مهى يحيى ذكرت فيه انهيار خمسة أركان أساسية فى لبنان بينما يظهر الساسة درجة كبيرة من اللامبالاة والقسوة تجاه أوضاع اللبنانيين.. نعرض منه ما يلى.
يدفع السياسيون اللبنانيون بلادهم نحو شفير الهاوية. فبعد مرور ثمانية أشهر على الأزمة المُعقدة التى تُهدد أُسس لبنان، لم يتخذ هؤلاء بعد أى خطوات للَجم الانهيار. لا بل انتهج هؤلاء المسئولون مقاربة العمل كالمعتاد المؤذية، إذ يواصلون الرهان على نظام لم يعد قائما.
تنهار اليوم أربعة من خمسة أركان أساسية للبنان الحديث: يتمثل الركن الأول فى أن ترتيبات تقاسم السلطة، والتى ميزت البلاد منذ تأسيسها، لم تعد فاعلة، وتُعانى من الشلل السياسى المتواصل والمُنهك. يعتمد نظام تقاسم السلطة على محاصصة للمناصب الحكومية بين مختلف طوائف البلاد. كما أنها ترتكز على النفى الثنائى «لا شرق» و«لا غرب»، الذى يتوقف بموجبه المسيحيون عن السعى لتدخل غربى فى الشئون اللبنانية، ولا يطلب المسلمون الاندماج فى المحيط العربى.
صحيحٌ أن نظام تقاسم السلطة لا يُواجه خطر الانهيار الوشيك. لكن، آخر مرة جرى التنازع عليه، انخرط لبنان فى حمأة حرب أهلية استغرقت 15 عاما بين 1975 و1990، لقد أرسى اتفاق الطائف، أى التسوية التى أنهت النزاع، أسس انتقال لبنان إلى دولة مدنية ينتقل التمثيل الطائفى من البرلمان، إلى مجلس شيوخ جديد تكون سلطته محدودة فى البت بالمسائل الوطنية الكبرى. بيد أن هذه الأشطار من الاتفاق لم تُطبق قط. والآن، أصبحت الحوكمة الطائفية أكثر تجذرا فى مؤسسات الدولة، ما يجعل التغيير فى منتهى الصعوبة.
***
الركن الثانى وهو دور لبنان كجمهورية تجارية يتمحور اقتصادها حول المصارف والخدمات، وصل إلى خواتيمه. ففى العام 2018، ساهمت الخدمات المالية بـ 8,5 فى المائة من الناتج المحلى الإجمالى، وقطاع السياحة بـ 3,1 فى المائة، وتُقدر خسائر القطاع المصرفى راهنا بنحو 83 مليار دولار، وفى بلد يستورد كل ما يستهلكه تقريبا، تكشف القيود غير الرسمية المفروضة على الرساميل وإلغاء خطوط الائتمان لقطاعات الأعمال، النقابَ عن نظام مصرفى لم يعد يعمل.
بالمثل، أغلقت زهاء 800 مؤسسة تتعلق بقطاع السياحة أبوابها بشكل دائم فى الفترة بين أكتوبر ويناير 2020. كانت السياحة والخدمات المرتبطة بها توظف 25 فى المائة من القوة العاملة اللبنانية، لكن 25 ألفا من هؤلاء فقدوا وظائفهم خلال هذه الفترة نفسها، والأرجح أن هذا الرقم ازداد بسبب الإجراءات الرامية إلى احتواء جائحة كوفيد ــ 19، وهكذا، يُهدد حجم الكارثة الركائز الأساسية للاقتصاد اللبنانى، فيما يُقدر الخبراء أن الاقتصاد سينكمش بنحو 25 فى المائة وفق القيم الحقيقية فى غضون السنتين المقبلتين.
***
هذا الانهيار الاقتصادى، وما يليه من تدمير للثروات، يقوض الركن الثالث للبلاد، أى الطبقة الوسطى التى كانت تاريخيا الأكثر احترافا ووفرة فى المنطقة. أما الآن، فيتعرض المجتمع اللبنانى إلى سيرورة إفقار متسارع الخطى، فيما يسعى شبابها الألمعيون منهم إلى العثور على فرص عمل فى الخارج. وأخيرا، ذُكر أن واحدا من كل ثلاثة لبنانيين خسروا وظائفهم، وأن العديد من الأشخاص الآخرين سيُرغمون على العمل بالمياومة ووظائف بلا ضمانات قانونية ولا تغطية صحية، وفى هذه الأثناء، خسرت الليرة اللبنانية 80 فى المائة من قيمتها فى السوق السوداء.
يكفى هنا مثل واحد لمعاينة مضاعفات كل هذه التطورات: كان متوسط الراتب السنوى للأستاذ المساعد فى الجامعة الأميركية فى بيروت 94 مليون ليرة، أى ما كان يوازى 63 ألف دولار فى السنة، أو نحو 5000 دولار فى الشهر. والآن، ومع وصول سعر الدولار إلى 8 آلاف ليرة، هبط الراتب إلى 11 ألف دولار فى السنة، أو 900 دولار شهريا.
أصبح العديد من سكان الطبقة الوسطى فى عداد الفقراء، ويقدر البنك الدولى أن زهاء 50 فى المائة من اللبنانيين يعيشون حاليا تحت خط الفقر، فيما الآلاف يتضورون جوعا، وأضحت الملابس والمواد الغذائية والوقود غير متيسرة مع هبوط القدرة الشرائية وفق القواعد السنوية إلى النصف، ومع وصول التضخم إلى 90 فى المائة فى يونيو 2020. كذلك، ارتفعت أسعار السلع الأساسية بنحو 55 فى المائة فى شهر مايو وحده. وكل هذا يجسد تهاويا ملحميا ستكون له مضاعفات لأجيال عدة.
***
الركن الرابع فى النظام اللبنانى، أى الحريات، تتداعى أيضا. لقد اشتهر لبنان، منذ الاستقلال، بحرية التعبير وبصحافته المزدهرة. ففى أواخر الأربعينيات، كانت تصدر فى لبنان 39 صحيفة يومية و137 دورية بثلاث لغات. كان لبنان، فى أيام العز، ملاذا آمنا للمعارضين واللاجئين، يزخر بحياة ثقافية وفكرية لا نظير لها فى المنطقة، وهو واصل الاضطلاع بهذا الدور حتى الآونة الأخيرة، وإن بفعالية أقل بكثير.
يتجلى التراجع فى الحريات الأساسية وقمع حرية الرأى فى استهداف الأجهزة الأمنية والقضاء بشكل منهجى وأكثر عدوانية، للنشطاء والمعارضين واللاجئين خلال السنوات الماضية. وفى حين يصون الدستور اللبنانى حرية التعبير، يصنف قانون العقوبات القدح والذم بحق المسئولين السياسيين والدينيين فى خانة الجرم. وفى هذا الإطار، أُوقف واستُدعى للتحقيق 60 شخصا على الأقل منذ 17 أكتوبر الماضى، على خلفية منشورات لهم على مواقع التواصل الاجتماعى. وأخيرا، أوردت تقارير أن النائب العام التمييزى كلف أحد الأجهزة الأمنية التحقيق فى منشورات مسيئة لرئيس البلاد جرى تداولها عبر مواقع التواصل الاجتماعى. ردا على هذه الخطوات، أُنشىء تحالف من أربع عشرة منظمة للدفاع عن الحريات.
***
أخيرا، يستشعر الركن الخامس فى النظام اللبنانى، أى الجيش وقوى الأمن الداخلى، أيضا تبعات الأزمة الاقتصادية. فالعسكريون وعناصر قوى الأمن يرون مداخيلهم وتعويضات نهاية الخدمة تتبخر، شأنهم فى ذلك شأن سائر اللبنانيين. فقد بات راتب قائد الجيش يساوى اليوم نحو 750 دولارا فى الشهر، فى حين تراجعت قيمة راتب العقيد إلى 300 دولار والجندى إلى 150 دولارا. ربما كان حال هؤلاء أفضل من الأشخاص الذين خسروا وظائفهم، لكنهم فقدوا جزءا كبيرا من المزايا التى كانوا يتمتعون بها سابقا. ووسط ارتفاع منسوب التوتر، ستزداد الضغوط الاقتصادية على القطاع العسكرى والأمنى. وما يستدعى القلق أكثر هو أن كل ذلك يحدث على وقع ارتفاع معدلات الجرائم فى الأشهر الأخيرة.
***
اتسمت عملية صنع القرار على المستوى الوطنى ببطء شديد فى الاستجابة للأوضاع المزرية التى تتخبط بها البلاد، ما يدل على أن السياسيين بلغوا مستويات صادمة من اللامبالاة والقسوة تجاه معاناة اللبنانيين. فهم لم يتوقفوا عن السعى إلى تحقيق مكاسب قصيرة المدى، ولازالوا يتحينون الفرص والسبل للبقاء متشبثين بالسلطة، وإن عنى ذلك إغراق لبنان أكثر فأكثر فى لُجج الأزمة. وما يزيد الأمور سوءا أن هذه المماطلة تفاقم الخسائر التى يتكبدها المودعون العاجزون عن سحب دولاراتهم العالقة فى المصارف إلا بالليرة اللبنانية، وفق سعر صرف رسمى أدنى بكثير من أسعار السوق السوداء.
لا شك أن من الضرورى التوصل إلى اتفاق بشأن خطة الإنقاذ الحكومية لتتمكن البلاد من الحصول على مساعدات مالية تشتد الحاجة إليها. لكن الخلافات لا تزال دائرة بين الحكومة وبين البرلمان حول حجم الخسائر المالية، فى ظل المفاوضات مع صندوق النقد الدولى. وبدلا من أن يباشر السياسيون إجراء الإصلاحات اللازمة، آثروا مواصلة سلوكهم السابق، وبدا ذلك جليا من خلال تعيينات الإدارات المدنية التى تمت على أساس المحسوبيات السياسية، وليس الكفاءة. لكن الأكيد أن البلاد لن تحصل على جرعة الدعم الخارجى من دون تنفيذ الإصلاحات الضرورية.
فى غضون ذلك، تعود الأحزاب السياسية إلى ممارسة غرائزها الطائفية، ما يؤدى إلى تفكك الكيان اللبنانى أكثر فأكثر. وواقع الحال أن التوجهات على الأرض تشى بالمزيد من الشرذمة، إذ يتخذ عددٌ من القرى والبلدات والأحياء إجراءات لتأمين الحماية الذاتية. وهكذا، وفى خضم رياح الأزمات المتشابكة، المُتمثلة فى تفشى فيروس كوفيدــ19، وارتفاع معدلات الجرائم، وانهيار مؤسسات الدولة، ما كان من هذه الأحزاب إلا أن أعادت إرساء شبكات الحماية الاجتماعية الخاصة بها، وأخذت على عاتقها توفير المواد الغذائية والأدوية لتلبية حاجات ناخبيها. ويتزامن ذلك مع مساعى الكثير من اللبنانيين إلى بناء دولة لاطائفية تكرس حقوقهم كمواطنين فعليين، وليس كأبناء طائفة معينة.
لا يمكن أبدا معالجة المشكلات التى يعانى منها لبنان إن لم تعمد القوى السياسية إلى إعلاء المصالح الوطنية، وحتى مصالحها طويلة المدى، فوق المكاسب الضيقة التى قد تحققها على المدى القصير. وينطوى ذلك على قبول هذه القوى بتحمل بعضٍ من الخسائر الناجمة عن الأزمة، وتشكيل حكومة تكون قادرة على بلورة وتطبيق برنامج عاجل لتحقيق الاستقرار المالى، فضلا عن برنامج للتعافى على المدَيين المتوسط والبعيد. لكن يبدو، للأسف، أن هذه الإجراءات ليست ضمن أولويات القيادات السياسية اللبنانية.
النص الأصلى
https://bit.ly/2CU7WQU

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved