إيشارب مُلوّن

نيفين مسعد
نيفين مسعد

آخر تحديث: الخميس 29 يوليه 2021 - 9:05 م بتوقيت القاهرة

لم تسمَع معاونتها جرس الباب مع أن الطارق بدا مصممًا على الدخول، الأرجح أن السائق جاء يطلب منها مفاتيح السيارة ليأخذ مدام علا لأداء واجب العزاء في ابنة عم صديقتها. نعم تبدو الصلة بعيدة بعض الشيء، وعلا قد لا ترتاح كثيرًا لصديقتها لكن الواجب واجب، هكذا تعلمَت في بيتها. أسرة صعيدية قبطية عصامية من الطبقة العليا نزحت من المنيا للقاهرة، واستقر بها المقام في حي العجوزة داخل ڤيلا هُدمت لاحقًا وقام مكانها مستشفى مشهور.
لم تنسَ الأسرة لعبد الناصر أنه أمّم بعض ممتلكاتها، ومنها شركة سفن محترمة مملوكة للعم وكان الأب مساهمًا فيها، لكن الأسرة نادرًا ما كانت تتكلم في السياسة أو تحبها وهذا ليس مجالها على أي حال، فالأب طبيب مشغول حتى أذنيه في عيادته الناجحة والأم ربة البيت والمسؤولة الوحيدة عن تربية الأولاد الأربعة، وبمرور الأيام تجاوزَت الأسرة محنة التأميم، واشتغلت وكافحَت وأعادت بناء نفسها وتوسّعت أعمالها. نقلَت الأسرة معها من الصعيد البيانو الكبير ولوحات الكانڤاه وتماثيل الملائكة البرونزية، ونقلت عاداتها في المعيشة وطقوس الطعام والمجاملات وزواج الأولاد، وحافظت الأم حتى على تعطيش الجيم الذي كان يخرج من فمها زي العسل، تمامًا كما كان يخرج حرف الراء مشوبًا بلدغة محببة لزوم النطق الصحيح للغة الفرنسية، أما أهم ما نقلته معها الأسرة الطيبة من المنيا للقاهرة فكان هو الأصول. كلمة الأصول هذه اعتادت أن تدخل على معظم الجمل المفيدة للأسرة وكأنها كانت البوصلة التي توجّه السلوك وجهته الصحيحة، فتسمع الأم تكرر من وقت لآخر: كله بالأصول، أو حسب الأصول، أو الأصول بتقول كده أو ما بتقولش كده. وفي هذه البيئة تربّت علا.
***
تحامَلت المسكينة على نفسها وضغطّت على ذراعها المكسور وفتحت الباب. لكنها لم تجد السائق أمامها كما كانت تتوقع بل وجدَت صديقتين قديمتين من صديقات المدرسة… ياااه والله زمان. مع أنها لم تُذِع خبر تدحرجها من أعلى السلّم، واستعانت كعادتها على مداواة الألم بالصبر، إلا أن الخبر انتشر بقدرة قادر حتى أنه وصل إلى مَن لم يعد يجمعها بهم إلا الذكريات الحلوة، ولو لم تأتِ صديقتاها لزيارتها بعد أن أخذتا علمًا بسقوطها فإنها ما كانت سوف تستاء، الدنيا تلاه وهي اعتادت أن تقدّر الظروف وتعذُر عند التقصير وألا تعاتب أحدًا، فهي تأخذ نفسها بالأصول ولا تتوقعها من الآخرين. كان وقوف الصديقتين قبالتها دون سابق إنذار كفيلًا بأن يفجّر عشرات المشاعر داخل نفسها، أما الشعور الذي تمكّن منها فعلًا فكان خارج نطاق التوقّع. مبدئيًا كان المتوقع أن تندهش علا لرؤية صديقتّي الطفولة هكذا فجأة ودون موعد سابق. وكان متوقَعَا أن تنتابها فرحة غامرة لرؤية الماضي يطّل عليها ولديها ألف سبب للتحسر على ماضيها فواقعها مُحبِط، ومَن يدري لعلها حتى كانت تنسى الكوفيد وذراعها المكسور وتلقي بنفسها في أحضانهما. وطبعًا كان متوقعًا أن يُداخلها شعور بالإحراج لأنها ليست متأكدة إن كان لديها ما تضيّف به صديقتيها، فمنذ تركت البيت إلى المستشفى لإجراء العملية وحتى عادت وأمر ثلاجتها بل أمر بيتها كله في يد معاونتها الأمينة، سلّمته لها تسليم مفتاح كما يقولون وتفرَغت هي كعادتها للصلاة والتأقلم مع الألم. كل هذه المشاعر حقيقية، وكلها انتابتها وطافت بها ثم خفتت وتراجَعَت، أما الشعور الذي طغى واستمر بعد كلمات الترحيب فهو الشعور بالارتباك. كانت علا في قمة أناقتها كالمعتاد وزادها زي الحداد الأسود أناقةً، فالأسود كما يقول اللبنانيون "ما بيعطي سره لحداً"، لكن هذه الجلسة الحميمة لا يناسبها اللون الأسود، ثم أنه مع روائح الماضي الجميل لا توجد أسرار لا في اللون الأسود ولا في أي شئ، فكل الأسرار مخبوءة في هذا الماضي الجميل نفسه.
***
أول ما فكّرت فيه علا بعد تأجيل أداء واجب العزاء إلى ما بعد الظهر لظرف طارئ، كان هو كيف تغيّر فستانها الأسود بما يناسب المناسبة السعيدة، مناسبة اللقاء مع صديقتّي المدرسة، هكذا تقول الأصول. ما هذا يا بنتي؟ فستان أسود إيه الذي تفكرين في تغييره وداخل ذراعك توجد شريحة معدنية مثبّتة بدستة مسامير كاملة؟ هل نحن أغراب؟ لا تنصت، لاتقبل، لا تلين، نقح عليها العِرق الصعيدي ولم يعد ينقصها إلا أن تعطّش الجيم وهي تصف "مچية" صديقتيها بالـ"چميلة"، حتى تصير علا هي أمها وتصير الأم هي علا. هذا الوجه الملائكي المسكون برضا العالم كله وسماحته تتبدل ملامحه فجأة حين تُجرَح أو تتألم أو حين تُمّس الأصول. ومَن هو الوغد الذي تجرأ على المساس بالأصول؟ لا ترد، أوليس الأسود زي كل المناسبات المفرحة والمحزنة على حدٍ سواء، ليس بالضبط ترد، هل سيتبدد وقت الزيارة في الجدل حول لون الفستان؟ تفكر للحظة ولا ترد. في الأخير وبعد أخذ ورد لا يحتمله الموقف ولا بالطبع صحة المُضيفة، تم التوافق على أن يجري كسر حدة الأسود بإيشارب ملوّن، الحمد لله أخيرًا حل يرضي جميع الأطراف.
***
دلفت علا إلى الداخل ومن خلفها معاونتها، وغاااابت بشكل ملحوظ، فحركتها صارت بطيئة ولا يخلو الأمر من تردد بين الاختيارات المختلفة، وأخيرًا خرَجت وقد استعادت ملامحها طيبتها وهدوءها المعتادين. ارتسمت على وجهها ابتسامة رضا بينما التف حول رقبتها إيشارب Burberry أصلي غير مضروب. اكتست شفتاها بلون أحمر خفيف جدًا بعد أن كانت تستعد للعزاء بوجه مغسول تمامًا، وبذلك تكون قد تجاوزَت الاتفاق الثلاثي مع صديقتيها وأضافت إليه بندًا خلافيًا لزوم تأكيد خصوصية المناسبة: أحمر شفاه. جلست على المقعد الوثير وأسندت ظهرها إليه فيما كان من خلفها روميو يؤدي التحية لچولييت على ركبة ونصف داخل قماش الأوبيسون. مدّت يدها اليسرى تتحسس ملابسها وتتأكد من أن كل شيء على مايرام، أصبحت لديها الآن فرصة لتتفرس في وجهّي صديقتيها بما تعرفه فيهما وما جدّ عليهما. انبسط الحديث بين الثلاثة وتشعّب في كل اتجاه وكأن الإيشارب إياه قد تحوّل إلى جسر يربط الماضي بالحاضر وتعبر عليه الحواديت والمشاعر والسلامات .

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved