وجوهٌ لم تغادرنى.. «جورج عجايبى.. وعِلْمُ التمييز بين الصحاح والزيوف»

نبيل مرقس
نبيل مرقس

آخر تحديث: السبت 31 يوليه 2021 - 11:28 ص بتوقيت القاهرة

لَقَيْتُ جورج عجايبى للمرة الأولى فى حياتى مصادفةً فى كنيسة مصر الجديدة الإنجيلية أثناء حضورنا ــ فى عام 1987 ــ إحدى الندوات الثقافية لجماعة «الفكر الإنسانى» التابعة للجنة المسكونية للشباب. كانت الندوة تناقش كتاب المستشار طارق البشرى «المسلمون والأقباط فى إطار الجماعة الوطنية».
لفحتنى حرارته الوجدانية، وجذبنى تدفقه التلقائى فتشابكنا فى صلةٍ إنسانية حميمة. كنت وقتها أبحث جاهدًا عن معنى المصالحة بين الإيمان الصوفى الهائم وَجْدًا فى حب الخالق، والنضال الدنيوي/التنموى على أرض الواقع فى خدمة كل أبناء الوطن من المهمشين والكادحين والمعوزين. وفيما جمعنى العمل فى تلك الفترة بإحدى الهيئات المسيحية التنموية الدولية مع الصديق العزيز سمير مرقس، استطاع جورج عجايبى بقدراته التنظيمية الفذة أن يجمعنا فى مجموعة «تفكير وعمل» ضمت إلى جوارنا جورج إسحق ومنير عياد وإيناس عوض الله وألفى شند ونادر غطاس والأب كريستيان فان نسبن فى سياق جهدٍ مخلص يسعى لإعادة تأسيس الحركة المصرية للعدالة والسلام التى تعمل تحت مظلة بطريركية الأقباط الكاثوليك بمصر.
وعندما قرأت بعدها بسنواتٍ تعبير المستشار عبدالحليم الجندى فى وصفه لشخص الشيخ الإمام محمد عبده بأنه «كان صَيْرَفِيًّا يزن المواهب ويميز الصحاح من الزيوف» (فى كتابه الصادر عن الإمام ضمن سلسلة أعلام الإسلام بدار المعارف) فهمت قليلًا عن تفاصيل هذه المَلَكَة التى يقتنيها عادةً من أصبح بالتعبير المسيحى الكتابى من «صَيَّادَيْ الناس» (متى 4 عدد 19). وقد كان جورج عجايبى صَيْرَفِيّا يزن المواهب، وواحدًا من صيادى الناس. استطاع جورج فى فترةٍ زمنية وجيزة فى بداية التسعينيات من القرن الماضى أن يوظف موهبته فى «صَيْدِ الناس» ــ بالمعنى الإيجابى للكلمة الذى يعنى إخراج موارد الخير والعطاء الكامنة فى نفوس الناس وتوجيهها نحو خدمة الإنسان ولصالح الخير العام ــ فى انتقاء نخبةٍ من المثقفين الأقباط الذين جمعهم حب الوطن والرغبة المخلصة فى الخدمة العامة، وضم إليهم حشدًا من شركاء الوطن الذين آمنوا بقيم العدالة والسلام وأرادوا لمصر أن تخرج من دوامة العنف الدينى السائد وقتها لتستعيد سماحتها الأصيلة فتحتضن جميع أبنائها بغير فرقةٍ أو تمييز. وهكذا أصبحت حركة العدالة والسلام المصرية بعد سنواتٍ من العمل الثقافى الجاد والمبادرات الحوارية الخلاقة منبرًا ثقافيًا متميزًا ونافذةً فكرية متسعة تطل على جميع أحداث الوطن وتجمع عددًا من أنبغ وأخلص أبنائه. أذكر منهم أحمد عبدالله رزة وأحمد الجمال وأبو العلا ماضى وأحمد بهاء الدين شعبان وصلاح عبدالمتعال ونبيل عبدالفتاح ومحمد السيد سعيد وعمرو حمودة ونادية رفعت وسمير مرقس ومنير عياد وجورج إسحق ونادر غطاس وإيناس عوض الله وألفى شند وماجد موسى والأب وليم سيدهم والأب كريستيان فان نسبن والأب يوحنا قلتة والأب كميل وليم والأب رفيق جريش والقس إكرام لمعى وقاسم عبده قاسم وعبدالوهاب المسيرى وهدى حجازى وعبدالعليم محمد ومحمد عفيفى وهبة رءوف عزت ومنار الشوربجى وأحمد محمد عبدالله وعماد صيام وضياء رشوان وعلى نصار وابراهيم العيسوى ومُحَيَّا زيتون وحسين عبدالرازق وفريدة النقاش وكريم جوهر ونجوى فرج وفيفيان فؤاد وعادل ياسين وأحمد طه النقر وغيرهم. وفى عام 1994 أصدرت اللجنة المصرية للعدالة والسلام كتاب «الحوار الوطنى» من تحرير أحمد عبدالله رزة وجورج عجايبى. وفى عام 1995 اختار الأستاذ نبيل عبدالفتاح محرر تقرير «الحالة الدينية فى مصر» الصادر عن مركز الدراسات السياسية والإستراتيجية بالأهرام ثلاثة من نشطاء العدالة والسلام للمشاركة فى إصدار العدد الأول من التقرير، وهم سمير مرقس وجورج عجايبى ونبيل مرقس.
***
وكان طقس الإفطار الرمضانى السنوى الذى تنظمه «العدالة والسلام» فى ضيافة دير راهبات قلب يسوع المصريات بقيادة الأم الجليلة مارى جورجيت هو ذروة «روحانيات» هذا التجمع الثقافي/الوطنى، حيث تمتزج تكبيرات المصلين الصائمين من أصدقاء العدالة والسلام عقب آذان المغرب بعطر الصلاة الدائمة التى تنسكب فى أرجاء الدير والتى تتجلى فاعليتها فى الحركة الدءوبة للراهبات المستغرقات فى إعداد وتقديم وجبة الإفطار الشهية بكل تقاليدها المصرية الرمضانية. ويعقب الإفطار عادةً ندوة فكرية تستضيف واحدًا من رموز مصر فى الثقافة والسياسة كان بينهم الأستاذ عادل حسين، د. أحمد كمال أبوالمجد، الأستاذ محمد فايق، الأستاذ سلامة أحمد سلامة، الأستاذ شوقى جلال... وغيرهم.
تتلمذ جورج عجايبى على أيدى اثنين من أبرز رموز العمل الثقافى فى مصر، أولهما الأب جورج قنواتى (1905ــ 1994) عضو المجمع الفاتيكانى الثانى (1960ــ 1964) ورئيس معهد الآباء الدومينيكان للدراسات الشرقية بالقاهرة وصاحب كتاب «المسيحية والحضارة العربية»، وأيضًا صاحب رسالة الدكتوراه من جامعة مونتريال فى موضوع «مفهوم الخلق بين إبن رشد وتوما الأكوينى». وثانيهما الأب كريستيان فان نسبن (1938ــ 2016) المستشرق الهولندى الذى انتمى إلى مصر فكرًا ولغةً ونمط حياة ومعايشةً لكل أبنائها. وهو واحدٌ من رواد الحوار الإسلامى المسيحى فى مصر والعالم العربى وصاحب كتاب «مسيحيون ومسلمون ــ إخوة أمام الله»، وقد حصل على درجة الدكتوراه فى اللاهوت من جامعة السوربون فى موضوع «مفهوم سنن الله فى تفسير المنار» للشيخين محمد عبده ورشيد رضا. وتهيأت لجورج عجايبى فرصة نادرة للقاء السيدة مارى كحيل (1889ــ 1979) وهى سيدة مسيحية من أصولٍ سورية تنتمى إلى طائفة الروم الكاثوليك، كان والدها تاجرًا ثريًا هاجر إلى دمياط وكانت والدتها ألمانية. وقد قضت سنوات الحرب العالمية الأولى مع والدتها فى أوروبا، وحينما عادت إلى القاهرة عام 1920 شاركت بنشاط مع السيدة هدى شعراوى فى تأسيس حركة الاتحاد النسائى، وساهمت مع الأب هنرى عيروط فى إنشاء «جمعية مدارس الصعيد»، وعملت كسكرتيرة فى جمعية «محمد على الخيرية الإسلامية». وتتلمذت على يد المستشرق الفرنسى المعروف الأب لويس ماسينيون، وشاركت معه منذ عام 1941 فى عدد من المبادرات الهامة للحوار الإسلامى المسيحى. وفى عام 1975 شاركت مع الشيخ أحمد حسن الباقورى والدكتور عبده سلَّام وزير الصحة الأسبق والأب كريستيان فان نسبن فى تأسيس «جماعة الإخاء الدينى». كما اقترب جورج بفكره ووجدانه من شخصيتين مؤثرتين فى دوائر الحوار الإسلامى المسيحى فى العالم العربى. أولهما الأب سمير خليل اليسوعى المصرى مولدًا واللبنانى إقامةً والباحث المعروف فى التراث العربى المسيحى، وثانيهما د. طارق مترى المثقف والسياسى اللبنانى ممثل الأمين العام للأمم المتحدة بليبيا (سابقًا) وصاحب كتاب «سطور مستقيمة بأحرفٍ متعرجة.. عن المسيحيين الشرقيين وعلاقتهم بالمسلمين». ومن داخل هذه الدوائر وفى صحبة تلك الشخصيات التى اجتذبها وهج مصر الثقافى والحضارى وقدرتها العبقرية على احتضان جميع الوافدين إليها لتصهرهم وتعمدهم بماء نيلها المقدس، تعلم جورج عجايبى كيف يغزل خيوط الحوار مع الآخر المغاير فى الدين والمختلف فى الثقافة والعقيدة والانتماء، وكيف يمارس قيم التسامح وقبول الاختلاف والحرص على إقامة الجسور مع جميع التيارات الفكرية والفلسفية والمذهبية بغير تصنعٍ أو ادعاء. وقد جمع جورج فى نشاطه الواسع بين العمل الثقافي/الوطنى فى حركة العدالة والسلام المصرية، والعمل الخيري/التنموى فى جمعية الصعيد للتربية والتنمية، والعمل السياسى من خلال عضويته بحزب الكرامة، والعمل التربوى والإعلامى من خلال تدريسه فى معهد السكاكينى للدراسات اللاهوتية وتحريره لدورية رسالة الكنيسة التى تصدر عن بطريركية الأقباط الكاثوليك فى مصر، وأيضًا الانخراط فى التبادل الثقافى الدولى من خلال نشاطه فى الاتحاد العالمى للطلاب المسيحيين.
وقد اجتاز جورج عجايبى فى سنوات مرضه الأخير رحلةً طويلة من الألم والمعاناة. وعندما أراد أندريه جورج عجايبى أن يودع أباه، ناداه فى تلقائيةٍ مدهشة: «يا ريس.. كما عودتنى أن أناديك.. أفتقدك بشدة.. مازلت أرى ملامح وجهك.. وأئتنس بابتسامتك كل صباحٍ.. لقد علمتنى الصبر والعزيمة، المثابرة والكفاح.. علمتنى كيف أعيش ملء الحياة.. وكيف أغادرها بشرفٍ وكرامة.. وتعلمت منك أيضًا أن أحب بلدى.. وأن أكون مصريًا بحق». ولقد كان جورج عجايبى بالنسبة لنا.. بتاريخه ونضاله.. بسلوكه وأفعاله.. بما غرسه فى وجدان أبنائه ومريديه.. نموذجًا مصريًا وإنسانيًا لا يُنْسَى.. بينما تُحَلِّقْ حركة «العدالة والسلام» فى ذاكرتنا.. حلمًا جماعيًا جميلًا لم يكتمل!!

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved