خطايا الماضى إذ تعمل فى الحاضر

علي محمد فخرو
علي محمد فخرو

آخر تحديث: الخميس 29 أغسطس 2013 - 9:30 ص بتوقيت القاهرة

منذ بضع سنوات أظهرت مراجعة شاملة لخمس وعشرين ألف دراسة، مختبرية وفى الواقع الحياتى، شملت ثمانية ملايين شخص. وقام بها علماء النفس والاجتماع، أظهرت أن سلطة الظروف الإجتماعية على الإنسان الفرد وعلى الجماعات هى كبيرة وبالغة الأهمية. لكن الظروف تلك لا تأتى من فراغ وإنما هى حصيلة لأنواع من الأنظمة، السياسية والاجتماعية والاقتصادية، التى تخلق تلك الظروف وتتحكم بها وتستغلها لصالحها.

بالنسبة للفرد العربى وللجماعات العربية فإن تلك الأنظمة تمثلت فى ثلاث صور: نظام سياسى استبدادى تسلطى فاسد ظالم، علاقات قبلية أو عشائرية أو عائلية تعلو فوق الوطن والعام المشترك، قراءات فقهية متباينة سمحت لاستغلال الدين فى السياسة وأفرزت ما عرف بفقهاء السلاطين وبالطائفية.

النظام السياسى ذاك جذر الخوف والخنوع والاستسلام كثقافة مجتمعية رائجة، والقبلية وأخواتها أوجدت علاقات مجتمعية مصلحية منغلقة على نفسها وقامعة لاستقلالية الفرد والتزاماته العامة، أما استغلال القراءات الخاطئة من قبل فقهاء السلاطين فقد قلب الدين الإسلامى من كونه ثورة فى سبيل الحق والعدل والحرية والسمو الإنسانى إلى مناقشات فرعية هامشية وإلى أداة لتبرير كل أنواع الأخطاء والخطايا.

•••

إن ما يهمنا فى هذا المجال هو التشابه فى الجوهر بين المسيرة التاريخية العربية التى خضعت لتلك الأنظمة المستبدة أو المصلحية المنغلقة أو المستغلة للكلمات والرموز الدينية من أجل صالح السياسة وبين الكثير من التجارب المخبرية التى قام بها علماء النفس والإجتماع عبر قرن كامل أو التجارب الحياتية المشينة التى جرت فى سجون أبوغريب وجوانتانامو أو وقعت فى فيتنام على أيدى الأمريكيين وفى فلسطين المحتلة على أيدى الصهاينة وفى العراق على أيدى مجانين الطائفية وفى العديد من الدول الأفريقية وغيرها كثير.

ولأن هناك تشابها فى الجوهر فإن هناك تشابها فى النتائج، ومن أهمها الآتى:

الاستقالة السلبية من عيش الحياة النشطة الإيجابية. إن الفرد أو الجماعة يودون أن يقوم غيرهم بحمل مسئوليات الحياة. إنهم فى تفتيش دائم عن القائد الأب أو الحاكم رب العائلة. إن الحياة القبلية قد عودتهم على أن الأمور يجب أن تترك لرئيس القبيلة، فهو الأعلم بتدبير الأمور.

لقد كانت ثورات وحراكات الربيع العربى محاولة جادة للخروج من حالة الاستقالة ومن حالة الخوف من مسئوليات الحرية. لكن التخلص من تلك العادات والعاهات لن يكون سهلا. وها نحن اليوم، بعد مرور سنتين على الربيع العربى، نرى عند البعض فى مصر وتونس وليبيا واليمن حنينا لعودة الرئيس رب العائلة والقبيلة بعد أن أذهلتهم وأنهكتهم مسئوليات الديمقراطية ومتطلبات ممارستها.

ثانيا ــ من أخطر النتائج هو ترسخ ظاهرة ما يعرف بتجريد الآخر من إنسانيته (DEHUMANIZATION). وعندما تمارس تلك العادة فإنها تؤدى إلى كوارث. إن جزءا أساسيا من التركيبة النفسية عند شباب مجاهدى القاعدة هو التعامل مع أعدائهم أو حتى مخالفيهم بأنهم ليسوا بشرا يستحقون الحياة ولذا يجب أن يتم اجتثاثهم من الوجود.

لكن هذه الممارسة لا تقتصر على هؤلاء المتطرفين فقط. إننا نراها أيضا عند بعض المتطرفين من الإعلاميين والسياسيين أيضا. إننا عندما نستمع إلى خطابهم، بلهجته الغاضبة القبيحة، تجاه قوى الإسلام السياسى فى مصر أو تونس على سبيل المثال نرى محاولة تجريدهم حتى من إنسانيتهم واعتبارهم جراثيم فى الحياة السياسية يجب استئصالها أو تلقيح جسد المجتمع ضدها. يخرج التعامل هنا من مستويات الاختلاف إلى مستويات التجريد من الإنسانية ومن ثم الاستئصال. وقد كتب علماء النفس الاجتماعى المئات من الكتب عن هذه الظاهرة الخطرة وكيف أن الأنظمة المريضة تؤدى إلى الوصول إليها عند الأفراد والجماعات.

ثالثا ــ أيضا من أخطر النتائج وصول الفرد أو الجماعة إلى حالة خبوت وضعف ذاتية الفرد، وبالتالى ضعف الضمير عنده، ومن ثم ممارسة عادة التفرج على الأحداث وعلى ما يصيب الغير بحيادية تامة وبلا مبالاة أخلاقية. انظر إلى محدودية الانتماء إلى النقابات والأحزاب ومؤسسات المجتمع الأهلية المدنية. انظر إلى المذابح التى تجرى يوميا فى أرض العرب من قبل بعض الأنظمة أو الإرهابيين أو عتاة الطائفية دون أن تخرج مظاهرة واحدة للتنديد بذلك. انظر إلى الاستباحة الصهيونية والاستعمارية اليومية لكل حرمة ومبدأ دون أن يتحرك ضدها إلا القليل. انظر إلى دموع الثكالى والأطفال والعجزة دون أن تحرك الغضب ولا حتى الاحتجاج.

إن موت ذاتية الفرد الإنسانية تفسر ذلك.

•••

هذا موضوع لا تعطيه حقه مقالة، إذ يحتاج إلى كتب. والنتائج الثلاث هى أمثلة. إنها تفسر جزءا من مشهد الربيع العربى الذى لا يكفيه أن يدرس من خلال السياسة فقط. إنه مشهد مركب ويحتاج إلى صبر وإيمان بالحق وفى نهايته يشع نور.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved