اقبلوا الممكن.. ولا تزايدوا على المستحيل

ناجح إبراهيم
ناجح إبراهيم

آخر تحديث: السبت 29 أغسطس 2015 - 7:30 ص بتوقيت القاهرة

• كنا فى شبابنا نعقد مؤتمرات فى الجامعة فى مناسبات دينية أو وطنية أو بمناسبة أحداث هامة تمر بنا وبالوطن.. وكان يتخللها كلمات حماسية دافقة من شباب صادق اللهجة مملوء بالحماسة.. وفى الوقت نفسه قليل الخبرة والتجربة والحنكة وضعيف الثقافة السياسية وتوازنات القوى محليا وإقليميا ودوليا.

• وكانت تعقب معظم هذه المؤتمرات توصيات يصدق عليها الحضور بالموافقة أو الرفض عن طريقة الهتاف أو التكبير.. وكانت كل القرارات تحظى بالموافقة فى ظل حماس جارف من جميع الشباب الموجودين.

• وكان من ثوابت التوصيات: قطع العلاقات مع إسرائيل وطرد السفير الإسرائيلى.. وتطبيق الشريعة الإسلامية فى مصر.. وغيرها من الأهداف التى كنا نظنها فى شبابنا سهلة ميسورة ولا تحتاج من الحاكم والحكومة سوى توقيع قرارات فورية بها.. فلم نكن ندرك مثلا أن قطع العلاقات مع إسرائيل يعنى الحرب معها ومع أمريكا والغرب وأشياء أخرى كثيرة ليست فى وسع الدولة المصرية نفسها.. فضلا عن الحكام والرؤساء أنفسهم.

• وقد تأملت شكل معظم المؤتمرات التى كانت تعقد فى الجامعة وأنا فى السجن وكنت أعجب فى نفسى من هذه الطريقة العبثية والمراهقة الفكرية التى كنا نتناول بها الأمور ونفهم بها كيف تتحقق الأهداف الكبرى فى الحياة.. وكيف ومتى يتم تحقيقها وشروط تحقق الأهداف العظمى فى حياة الأمم وكيفية التدرج فى تطبيقها.. فالتدرج سنة كونية ماضية فى الإنسان والحيوان والنبات وفى الكون أيضا .

• فتطبيق الشريعة الإسلامية مثلا ليست مجرد «on off ».. وما يطبق منها فى أى مجتمع يخضع للوسع المجتمعى لهذا المجتمع.. فكما أن لكل فرد وسعا فكذلك لكل مجتمع وسع.. وكما أن الله لا يكلف الإنسان إلا وسعه وطاقته فى تحمل تكاليف الشريعة.. فكذلك لا يكلف الله المجتمع إلا وسعه «لا نكلف نفْسا إلا وسْعها».. ويقاس عليها مجازا «لا نكلف مجتمعا إلا وسعه».. فوسع المجتمع المصرى فى الشريعة الإسلامية أكبر من وسع المجتمع الألبانى أو البوسنى أو الكينى أو المالى أو السنغالى.. ووسع المجتمع الليبى أكثر من وسع مجتمعات أخرى فى أمريكا وأوروبا وأفريقيا وآسيا وهكذا.

• تفكرت ذلك وقلت لنفسى: إن أزمة الحركة الإسلامية المستعصية أنها لا تجدول أهدافها وتصنفها ما بين الممكن تحقيقه وشبه المستحيل تحقيقه.. فتقدم الممكن وتسعى إليه بدأب وتدرج وأناة ودقة وتفان.. وتتأمل العسير والصعب أو المستحيل تحقيقه فلا تزايد عليه ولا تتعب نفسها وتشتت جهودها وتدخل أبناءها فى معارك عبثية من أجله.. فتضيع فى هذه المعارك العبثية حريات أبنائها وتهدر دماؤهم وتضيع كرامتهم وتضيع أموالهم من أجل أهداف شبه مستحيلة ودون جدوى.. «فلا أرضا قطعوا ولا ظهرا أبقوا».

• تذكرت ذلك كله وأنا أرى خلال السنوات الماضية إصرار مئات الآلاف أن يموتوا أو يسجنوا أو يقتلوا أو يجرحوا من أجل شىء يعرف القاصى والدانى أنه كان مستحيلا من أول يوم وهو عودة د. مرسى إلى الحكم وعودة شرعيته.. وهذه الآلاف المؤلفة التى أحبت د. مرسى وحكمه اعتصمت فى هذا الزمان اعتصاما طويلا جدا لا تريد مفارقته والاعتصام فى الزمان بالعقل والفؤاد أخطر من الاعتصام فى المكان.

• وحينما أتذكر مؤتمرات الجامعات فى فترة شبابنا بتوصيتها غير المنطقية وغير العملية لم أكن أظن أنها ستتكرر من أناس قاربت أعمارهم الستين ولهم خبرات فى الحياة.. فلم أكن أتصور يوما داعية يقول على منصة رابعة مستفزا كل خصومة: أنا أطالب محمد إبراهيم وزير الداخلية «أن يشرب بريل ويسترجل» ويأتى لفض الاعتصام.. أو آخر يقول «أن الذى يشك فى عودة د/ مرسى فى إيمانه شك».. قد تصلح هذه الكلمات من شاب صغير متحمس قليل الخبرة.. ولكن أن تصدر من دعاة وقادة وذوى خبرات.. فهذا فى غاية الخطورة على الحركة الإسلامية ذاتها.. وفى النهاية فضت رابعة بالقوة المفرطة غير الرحيمة وغير الحكيمة ولم يحاسب أحد من هؤلاء نفسه على كونه غرر بهذه الآلاف وأعان بطريق غير مباشر على وضع أبنائه وفلذات أكباده أمام فوهة المدافع التى لا ترحم أحدا.. وكان بإمكانه أن يرحمهم لو فكر بطريقة الأهداف الممكنة وغير المستحيلة.. ولو أدرك قليلا تصرفات الدول فى كل العصور.

• إن المزايدة على المستحيل تضيع دائما الممكن ولا تأتى بالمستحيل.. لقد كان يمكن للحركة الإسلامية المصرية كلها أن تضحى بمنصب الرئاسة وتحافظ على الجماعات والأحزاب والدعوة إلى الله والتواجد فى الشارع وعدم الصدام مع الدولة وتحافظ على هيبتها لدى الدولة والأحزاب الأخرى والإعلام.. وهذه الهيبة قد انكسرت الآن تماما وأصبح الإسلام السياسى وأهله فى كل مكان كالمنبوذ أو المطارد أو المشكوك فيه أو المطعون فى ولائه للوطن مع أننى لا أشك لحظة فى محبة معظم شباب التيار الإسلامى وقادته لدينهم ووطنهم ومجتمعهم وإرادتهم للخير للجميع.

• إن مشكلتنا الدائمة تكمن فى أن بعض دعاتنا يحبون دغدغة العواطف واستثارة المشاعر وجلب الشعبية الكاسحة لأشخاصهم عن طريق مخاطبة الشباب خطابا عاطفيا.. حالما وغير عملى ويطرح أهدافا شبه مستحيلة.. تاركين الممكن دائما.. ومزايدين على المستحيل.. فيضيع الممكن فى المزايدة على المستحيل.. لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عبقريا فى تناوله لأهدافه العظمى وعدم اختيار أى هدف له ولأصحابه إلا إذا كان فى مقدورهم وكان متاحا وقابلا للتنفيذ.. ولذلك كان هدفه الأول والأسمى والذى أعلنه فى مكة هو «خلوا بينى وبين الناس» ويعنى ببساطة «حرية الدعوة وهداية الخلائق».. وهو أعظم الأهداف.. ولو أنه قال وقتها «نكسر الأصنام أو نقاتل قريشا» لأبيد هو ومن معه عن آخرهم.

• وهذه حماس فى بدايتها قد وضعت ضمن أهدافها تحرير فلسطين من البحر إلى النهر.. ولما وجدت بعد سنوات طوال من الحكم والخبرة والممكن وغير الممكن.. أن هذا الهدف غير واقعى وغير مسموح به دوليا عدلت منه إلى إقامة دولة على حدود ما قبل 5 يونيو 1967.. وهذا ما فعلته من قبل منظمة التحرير.. وكل مجموعة جديدة لا تتعلم من سابقاتها.. بل تريد أن تبدأ الدرس من أوله بكل متاعبه وهزائمه ولا تبدأ من حيث انتهى الآخرون.. ولكن تبدأ من حيث بدأوا.

• والحقيقة أنه يمكن التسامح مع شباب متحمس قليل الخبرة يستخدم الحنجورى ويدغدغ العواطف ويهيج خصومه ويستخف بهم ويستفزهم.. لكن لا يمكن التسامح معه إذا كان قد قارب الستين من عمره وصاحب خبرات متعددة فى الحياة.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved