سألتنى حفيدتى وتسألنى مدينتى: من أكون؟

جميل مطر
جميل مطر

آخر تحديث: الثلاثاء 29 أغسطس 2017 - 9:40 م بتوقيت القاهرة

مرت علينا ساعة أو أطول، هى تسأل عن الماضى وأنا أتهرب. الخطأ خطأى. لم أدرك فى الوقت المناسب أن المكان أحيانا ما يفرض نفسه بندا على جدول أعمال اللقاء. إمعانا فى الخطأ افتتحت الحديث بكلمات كان بينها على ما أظن، يا الله ما أحلى اللحظة وأجمل المكان، وكان آخرها بالتأكيد، يا لها من أيام. تجاهلت رفيقة اللقاء جدول الأعمال وقررت منفردة تأجيل النقاش حول ما جئنا من أجله وراحت تسأل عن «الأيام». قالت أسمعك تشيد بمنظر النهر وقد عاد كما كان يعود فى هذا الشهر ممتلئا وسريعا وبسمرة جذابة، ولكن رأيتك تغيب كثيرا، تغيب عنى وعن النهر وعن الغروب، يشدك بعيدا عنا هذا المبنى المشيد على الناحية الأخرى من الطريق. لا أحد يطل منه ولا ضوء يتسرب منه. مبنى لا حياة فيه ولكنه يأخذك منى ومن الاستمتاع بحلاوة اللحظة وجمال المكان ومن العمل الذى ينتظرنا. 

تريثت قبل أن أجيب. خفت على حلاوة اللحظة وجمال المكان وأشفقت على نسمة المساء الطرية ولكن ألحت فأجبت. نعم، يشدنى دائما هذا المبنى، ففيه قضيت بعضا من مقتبل عمرى. هنا تعرفت أكثر على معنى الوطن ومعان أخرى كثيرة. هنا تعرفت على سعادة تتجاوز المرجو والمعتاد. هنا تقلبت على جمر الألم والتعاسة، جمر يتخصص فى صنعه ورعايته مبدعون، لا من خالق يخافون ولا بأخلاق يرتدعون. هنا وقعت ضدى وشاية كبرى وجاءنى اعتذار متأخر. هنا اكتشفت قيمة الرجولة كما فهمها أبناء زمن أقدم. هنا عرفت كيف يزينون لمواطن واعد ومؤهل وجاهز للعطاء طريق الرحيل، طريق فى اتجاه واحد، طريق نحو اللاعودة. هنا لمست أصابعى المخمل الذى كانت ترتديه القوة والنفوذ وتخضبت بالدم حين رفعت المخمل لتشتبك مع الشوك المسموم. هنا فى هذا المبنى عرفت كم مصر عظيمة بشبابها وكم هى فقيرة بقادتها. هنا وأنا ما أزال غضا قليل الخبرة فائر الحماسة تنبأت بالكارثة. من هذا المبنى رحلت. 

قلت لرفيقتى تعالى نتوقف عن الحديث عن الماضى وننشغل بما أتينا من أجله. تعالى ننسى أن هذا المبنى موجود وأن أشباح الماضى لا تزال تعشش فيه. قالت أظنك لم تفهم بعد قيمة هذا الماضى الذى تتهرب من الحديث عنه. حديثك المقتضب عن ماضى هذا المبنى الذى لم أهتم به يوما رغم كثرة ما مررت به يدفعنى لأعيد التفكير فى كثيير مما كنت أنوى عرضه عليك فى لقاء اليوم. من فضلك أكمل حديث هذا المبنى. لبيت رغبتها واستغرقنى الحديث ولم أتوقف حتى بعد أن غاب القمر وغادرنا المكان. 

***

فى اليوم التالى اتصلت حفيدتى ووصلت وجلست وعلى الفور سألت إن كان وقتى يسمح. قلت طبعا يسمح. بل كل الوقت لك. راح ظنى إلى أنها تريد رأيا فى قرار عن المستقبل. هكذا يروح ظنى دائما عندما يطلب الشباب الالتقاء بى. الشباب بالنسبة لى يعنى المستقبل. ماضيهم حفنة أيام وماضينا، نحن الأهل، بالنسبة لهم تاريخ. فاجأتنى الحفيدة. ها هى أمامى وقد تربعت تطلب الماضى. قالت «أريد أن أسمع منك ما يكفى لأعرف من أنا». أرادت توصيفا دقيقا لهويتها ومصادر هذه الهوية. من أى روح خرجت، فى أى بستان أينعت، فى أى بلاد عاش أجدادها وأجداد أجدادها.

تحدثت فأفضت. أسمعتها رواية الجد الألبانى الذى جاء فى صحبة أو تحت قيادة محمد على باشا، وحكاية الجد المغربى الذى استوطن عكا وحدوتة الجدة من الحجاز التى اصطحبها عند العودة جد كان يحج. أطنبت فى سرد تفاصيل حارة الوراق فى قاهرة المعز حين كان جدودها من أصحاب المكتبات والمطابع فى القرن التاسع عشر يغلقون أبوابها عليهم أثناء الليل. سمعت منى، وطلبت الاستزادة، عن جد غير بعيد كان وقبيلته يمارسان الغزو والنهب فى صحراوات قريبة من الأناضول، حتى قرر السلطان تعيينه واليا على القطاع ومسئولا عن أمن القوافل والحملات العسكرية. بدت معترضة فى احترام بل كادت تعلن رفضها فهم أو تفهم رواياتى عن جدات لها تزوجن ولم يبلغن الخامسة عشرة وها هى فى السابعة عشرة لا تفكر ولا أحد يفكر لها فى هذا الموضوع. 

رأيتها منتشية بما سمعت. لم تمل. لم تشرد. لم تنظر فى هاتفها المحمول إلا مرة واحدة على امتداد ساعتين أو أكثر. أعترف بأننى توقفت عن عمد قبل أن نصل بالأسئلة والفضول إلى مرحلة أحدث، مرحلة تقترب بنا من أحداث شهد عليها المبنى المطل على النيل واستهلك الحديث عنها ليلة الأمس.. هى الأحداث التى فى مجمل تداعياتها وحلقاتها المترابطة نقلت مصر فى مدة وجيزة من حال البلد الجاذب للغرباء إلى حال البلد الطارد لمواطنيه. نهضت مودعة بعد أن حصلت على وعد منى بجلسات أخرى عن الماضى الذى تحرجت من الخوض فيه أمامها. تريد أن تعرف كل شىء عن نفسها قبل أن ترحل. «أنا راحلة يا جدى، إلى مستقبل أشيده بنفسى فى بلد آخر يحترم قادته ذكائى وحقوقى ويقدرون طموحى». 

***

قرأت ما كتبته مى الإبراشى عن التراث وحظى بإعجاب الكثيرين واهتمامهم. قالت أشياء كثيرة كلها تستحق الوقوف عندها والتأمل. عشت سنوات أطل على كورنيش الإسكندرية منذ كان رمزا لعروس البحر المتوسط حتى صار غابة لصروح أسمنتية متنافرة. عشت أيضا سنوات النشأة والتطور فى حى المهندسين وأعيش فيه الآن مرحلة تدهوره. عشت مددا متفاوتة فى مدن بالريف المصرى أو على سواحلها وفى مستوطناتها المسورة التى صارت تحيط بالقاهرة. عشت منذ خرجت عائلتى من قاهرة المعز فى أحياء ومدن وقرى وسواحل لا طعم مصريا لها ولا لون. عشت أقارن بين غرب أصيل عشت فيه سنوات الدراسة وبعض سنوات العمل وبين غرب مصطنع أو مزيف نعيش فيه الآن. اعترفت حديثا أنه لولا منظر النيل فى الصور السياحية لما عرفت أن الصورة للقاهرة عاصمة الدولة التى ترث أطول ماضٍ وأعظم تراث. العمائر فى الصور منقولة عن عمائر خليجية أو فى أحسن الأحوال إيطالية وفرنسية، كل واحدة منها لا علاقة لها فى الرسم أو التخطيط أو حتى فى السكان بجاراتها من العمائر. تمشى فيها كأنك تمشى فى غابة من أشجار لا تنتسب لبعضها ولا أصل واحد لها. القاهرة كالإسكندرية وطنطا وأسيوط مدن بلا ماض. مدن يجب أن تبحث عن ماضيها لتصنع هويتها وتكتشف أصلها وتتعرف على نفسها. 

***

الطيب والشرير اشتركا فى صنع ماضٍ لا أنكره وحتى لو شئت فلن أستطيع. أجدى لى ولهويتى ووطنى أن أعترف به. لست مع الذين يقتلعون التماثيل فى المدن الأمريكية أو مع من اقتلع تماثيل صدام حسين فى العراق وعائلة الأسد فى سوريا والشاه فى إيران وبيرون فى الارجنتين وهتلر فى ألمانيا وستالين فى روسيا. حرب أهلية توشك أن تشتعل فى مولدوفا بسبب تمثال لفلاديمير لينين. أنا لا أخاف الماضى كما يخافه الداعشيون، أريده حيا فى الذاكرة، أريده جزءا من هويتى. أتمنى الفشل لكل مسعى يهدف إلى طمس جزء أو آخر من هوية الوطن، هويتى وهوية أحفادى من حولى ومن بعدى.

 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved