هوس موسم العودة إلى المدرسة

تمارا الرفاعي
تمارا الرفاعي

آخر تحديث: الأربعاء 29 أغسطس 2018 - 8:50 م بتوقيت القاهرة

هناك فترة فى آخر الصيف، حين تقترب الإجازات المدرسية من نهايتها، وقبل موسم العودة إلى مقاعد الدراسة ورائحة الحبر والورق، هى فترة ترتبط فى ذاكرتى بعملية مركبة تركز على عملية تنظيف وكأن العودة إلى المدرسة مناسبة للنظر فى الأدرج وتحت السرير، فى الرف الأعلى الذى نضع عليه ما لا حاجة لنا به إذ أن الوصول إليه يتطلب أن نقف على كرسى.

***

فجأة تخرج ثياب الصيف من أماكنها داخل الخزانة وتحظى بمعاملة ملوكية: غسيل، نشر فى الشمس ثم رص وكأنها مسافرة. هى فعلا مسافرة حتى يأتى الربيع فى السنة التالية. يتم فرز كل ممتلكات الكبار والصغار من ملابس وأحذية وأشياء أخرى يتم تحديدها حسب البيت، ويعاد تدوير معظمها أى أنه فى النتيجة النهائية لا يتم التخلى عنها إنما تتنقل بمعظمها من خزانة أحدهم إلى خزانة الآخر، اللهم إلا أشياء معدودة قد تذهب إلى بيت أحد الأقرباء.

***

يرتبط موسم العودة إلى المدرسة فى مخيلتى بالخريف وبورق الشجر المتساقط، وتدخل فجأة إلى غرفة نومى نسمة باردة غير متوقعة تجعلنى أرفع الغطاء من أسفل السرير إلى منتصفه. هل من حبات مطر خجولة تشق سماء الصيف فتخفف من حدته؟ ترتبط أيام شهر سبتمبر الأولى بصورة زى المدرسة وشنطة جلدية تثبت على الظهر بحزامين جلديين يمكن أن يطولا عن طريق فك الرباط قليلا فينتقل اللسان المعدنى من آخر الحزام إلى منتصفه. لقد كبرت عاما وضاق حول كتفى الحزام الجلدى.

***

فى الحقيقة، وفى ظل التغير المناخى والاحتباس الحرارى، إننى لم أشهد قط عودة إلى المدرسة وسط أوراق الشجر الصفراء والبرتقالية التى يفترض أن تملأ طرفى الطريق، ولم أعد قط إلى مدرستى تحت حبات مطر الخريف. هى صور تجمعت فى مخيلتى نتيجة قصص سمعتها من أمى وحملات تجارية اسمها «موسم العودة إلى المدرسة» غالبا ما يظهر فيها أطفال فى فصل الخريف، يضربون بأقدامهم كومة من ورق الشجر الأصفر المتجمع على طرف الرصيف. فى الحقيقة، أنا أتبع طقوسا ورثتها عن أمى وجدتى ترتبط فى ذاكرتى بالأسبوع الأخير قبل أن تفتح المدرسة أبوابها، وهو أسبوع مقدس ومعروف أن سبب وجوده فى التقويم أصلا هو تنظيف البيت استعدادا لاستقبال موسم الشتاء، حتى لو تأخرت بوادر الشتاء لمدة شهرين على الأقل.

***

وها أنا أشغل نفسى وأوتر عائلتى هذا الأسبوع بموضوع الانتقال الموسمى، أى الانتقال من أيام بطيئة وطويلة فيها تناسى لكثير من القواعد، إلى نظام أحاول، مثل كل عام، أن أبدأه قبل بدء الدراسة بأيام، علنى أعيد الجميع إلى قواعد يتهيأ لى أنها ضرورية. أصدر التعليمات، أفرغ محتوى الأدرج والأرفف، أعيد النظر فى ممتلكات أطفالى وأعدد ما يحتاجونه وما سوف نتخلى عنه. يعترض الأطفال فهم لا يفهمون ضرورة أن نتخلى عن ألعاب أو ملابس ما زالوا يستخدمونها. أقف محتارة بين طلب منطقى منهم بأن أبقى على أشياء يحبونها، وبين هوسى بالانتقال من موسم الصيف إلى موسم الخريف والمدرسة حتى مع عدم وجود خريف فعلى فى القاهرة.

***

هنا أيضا تتداخل حياتان وربما أكثر: هناك قصص والدتى عن الخريف فى دمشق وهوس والدتها كما سيدات كثيرات فى سوريا بتنظيم البيت استعدادا لحدث، أى حدث: العيد: العودة من الحج، استقبال الجيران والأقارب، أو العودة إلى المدرسة. ثم هناك حياتى مع عائلتى فى مدينة وعصر لا خريف فيهما وإصرارى على التعامل مع ابتداء العام الدراسى وكأن الصيف مغطى بأوراق شجر يبللها مطر أيلول.

***

بت متأكدة أنه ثمة قوة دفع يمارسها عقلى الباطن ليجبرنى على أن أتمسك بما تشربته سلالة أمى حتى وصلنى. أفرز أشيائى وأعيد ترتيب كل الأرفف، أتخلص من ما يبدو لى قد فقد بريقه، سواء الفعلى أو فى عينى. لا أحب الكراكيب، ربما هذا تغيير أساسى عن موروثى الدمشقى، فأهل دمشق يعشقون إعادة استخدام الأشياء بل قد يخلقون استخداما جديدا لشىء فقط بهدف إبقائه وعدم رميه. أطبق ثيابى بشكل شبه هندسى، أراعى أن يكونوا مرتبين حسب تدرج ألوانهم. أعود خطوتين إلى الخلف لأقيم أدائى، أو هوسى إن كنت أؤمن ببعض نظريات التحليل النفسى.

***

فجأة تجتاحنى فكرة أننى أصبحت مستعدة للذهاب. إن اختفيت اليوم، فلن أترك لمن حولى حمل فرز أشيائى، ومحاولة البحث عن معان خفية فى محتوى خزانتى. كل شىء واضح، ما عليهم سوى التخلص من أشيائى. حتى أوراقى أعدت تنظيمها فى ملفات واضحة العناوين سوف تساعد قطعا على ترتيب الأمور من بعدى. أستطيع الآن أن أسترخى، وأعيد عملية الترتيب هذه كل سنة فى الوقت ذاته، فلا تتراكم الكراكيب من حولى، وأتقدم بالعمر دون أن أقلق على من سوف يتوه داخل مغارة على بابا التى تخصنى. لكننى لن أذهب الآن فى كل الأحوال، إذ أننى أخطط لسنوات طويلة من الحب والسفر والدفاع عن حرية اختيار الحياة التى أريدها. أخطط لفترة مراهقة أولادى ثم خروجهم إلى حيواتهم، أتطلع إلى سنوات نعود فيها مع زوجى وحدة لا يتدخل فيها أحد، فنجلس لندخن سيجارة المساء على الشرفة، ويسألنى: أين ذهب ذلك القميص الأزرق الذى أهديتنى إياه منذ نحو عشرين سنة؟» وأنا لن أجيب....

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved