كلام الليل زبدة

تمارا الرفاعي
تمارا الرفاعي

آخر تحديث: الخميس 29 أغسطس 2019 - 10:25 ص بتوقيت القاهرة

يستيقظ الأشباح بعد غروب الشمس ويحاولون ما يستطيعون أن يقلقوا من ليل النائمين. يهمسون تفاصيل فى الآذان ويعيدون تركيب قصص قديمة تعود فجأة إلى سطح الذاكرة لتخدش بأظافرها رأس النائم فيصرخ. تحب أشباح الليل كثيرا لعبة «ماذا لو»، ولا تستحليها إلا فى فترات التوتر عموما. تبدأ بالسؤال: ماذا لو لم أقل تلك الكلمة؟ ماذا لو لم أتأخر ذلك اليوم عن الميعاد؟ ماذا لو بقيت فى البيت بدل أن...
***
هكذا تبعثر الأشباح دفاتر كثيرة داخل رأس النائم فينشغل بترتيبها فى منتصف الليل وفق التسلسل الزمنى لما بداخلها من أحداث. يهاله ما يظهر له من تفاصيل كان قد نسيها. أحقا كنت مع فلان حين وصلنى خبر مزعج؟ هل اختفت تلك الصديقة طوال مدة حزنى ثم ظهرت فيما بعد وكأن شيئا لم يحدث؟ من جاءنى بخبر موت صديق فى يوم كنت أستعد فيه للذهاب إلى الشاطئ؟ أين كنت يوم 11/9 وهل فعلا نظر إلى كل من حولى بريبة حين انهار البرجان داخل شاشة التليفزيون؟
***
ها أنا إذا مستيقظة تماما بعد أن تداخلت عشرات القصص القديمة والجديدة حتى شعرت أننى أمام سلة لثياب تحتاج إلى غسيل كالتى أخرجها من غرفة أطفالى: يختلط فيها الثياب أشكالا وألوانا وترانى بحاجة إلى إخراج كل محتوى السلة قبل أن أبدأ حتى بعملية فرزهم ثم غسيلهم. أين فردة الجراب الثانية؟ ماذا حدث لقميص ابنى الأكبر ولماذا يبدو عليه آثار شجار؟ وبما أننى وحدى مع السلة والغسالة، أبدأ بنسج قصص، جلها مزعجة، فى عقلى فأتخيل تفاصيل ربما لم تحدث، أو لو حدثت فهى ليست بالأهمية التى تظهر لى على شكل أشباح يتراقصون من حولى فى منتصف الليل بينما أقف أنا أمام سلة ثياب بحاجة إلى الغسيل لا أعرف من رمى فيها كل هذه القصص المزعجة.
***
تتضخم أصوات الأشباح على خلفية الصمت التام الذى يحيط بى فتتحول إلى صراخ يخترق رأسى، تبدو الأشباح سعيدة بالإزعاج الذى تسببه لى بينما أحاول جاهدة أن أحمى ذكرياتى من التبعثر. لا أريد أن أشكك بصدق فلان، ولا أن أعيد النظر بصداقتى مع فلانة، لا أريد أن أنجرف خلف ما يحاول الأشباح أن يخربوه، كما أننى الآن، أى فى منتصف الليل لست فى وضع يسمح لى بإعادة النظر بموضوعية فى أى قصة أصلا.
***
كلام الليل زبدة يقول المصريون، كلام الليل زبدة تطلع عليه الشمس تذوبه. كلام الليل يمحوه النهار، يقال فى بلاد أخرى. كلام الليل مزعج، ثقيل على القلب، يأخذ أبعادا غير صحيحة إنما أمامه ساعات كاملة لحفر ندوب فى قلب النائم. أشباح الليل تغنى قصصا لم تكن، ترتلها كصلوات حتى نصدقها حين يشتد سواد الليل. إنما فى أشد دقائق الليل سوادا، ها هو خط رفيع يخترق الحلك فأنشغل به لثوانٍ أتوقف فيها عن سماع الأشباح. ما خط النور هذا وهل سيستطيع أن يسحب ستارة الليل عن يوم جديد؟
***
أرى من شرفتى خط النور يضىء ما حوله. يبدأ الأشباح بالهروب واحدا تلو الآخر من أمامى حتى أصواتهم تأتينى من بعيد ولا أفهم الكلمات. لا أشهد فى العادة لحظة ولادة يوم جديد، فأنا أستيقظ عموما بعد شروق الشمس إنما ها أنا اليوم شاهدة على خط من النور يعمل ببطء ودأب ليزيح الظلام ويفتح الطريق أمام تفاصيل لن تظهر سوى مع الضوء.
***
لحظات ويستيقظ الكون من حولى. أين كنتم فى الساعات الأخيرة ولماذا تركتمونى وحدى مع الأشباح؟ أى أشباح، يسأل ابنى قبل أن ينشغل عنى وتظهر ابنتى مكانه تطلب منى شيئا أسارع بتنفيذه. أسمع صوت جريان الماء فى المطبخ وأشم رائحة القهوة ثم أرى ألوان ما حولى فأتساءل لماذا كان كل شىء مسحوب اللون منذ دقائق. ما كل هذا الغسيل على الأرض، يسأل زوجى فأتذكر أننى بدأت بفرز القصص ولم أنتهِ. هذا عالم بأكمله يضع نفسه مكان عالمى الليلى الموحش، ها هى وجوه محببه تقف مكان أشباح الليل لتدخلنى فى تفاصيل الصباح العادية.
***
ذابت الزبدة وتركت مكانها بقعة لزجة أسارع بإزالتها. ها هو كلام الليل يختفى تحت النهار ويتبخر أثره. أشباح أقامت حفلة صاخبة فى عقلى منذ ساعات لم تعد هنا وحل مكانها صوت أولادى وهم يبدأون يومهم. دقائق وأنسى لماذا استيقظت فى ساعات الليل الأولى حين يسألنى زوجى عن ليلتى. ماذا قال الشبح الأكبر؟ لم أعد أعرف إنما أتذكر أن كلماته كانت مزعجة. لا يهم الآن، فبين رائحة القهوة وأصوات العائلة ونور الصباح، يبدو يومى عاديا وما أحوجنى إلى يوم عادى.
لا أثر لبقعة الزبدة فقد فركتها بعنف حتى اختفت. طلعت عليها الشمس وأذابتها.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved