بياريتز آخر قمة عادية لمجموعة السبع

جميل مطر
جميل مطر

آخر تحديث: الخميس 29 أغسطس 2019 - 10:30 ص بتوقيت القاهرة

انعقدت فى بلاد الباسك فى أقصى جنوب غربى فرنسا القمة الدورية لمجموعة الدول الصناعية الديمقراطية. الصين ليست عضوا وروسيا العضو الثامن لا تشارك. الأولى ليست عضوا لأنها غير ديمقراطية والثانية لا تشارك لأنها تخضع لعقوبات على ذنب ارتكبته عندما تدخلت فى شئون أوكرانيا واحتلت ــ أو أعادت احتلال ــ شبه جزيرة القرم. لذلك كانت مفاجأة للقادة المشاركين فى القمة وبخاصة الأوروبيون الاقتراح الذى سربه الرئيس دونالد ترامب إلى مضيفه الرئيس إيمانويل ماكرون قبل الانعقاد الرسمى وأعاد عرضه علنا ويقضى بدعوة روسيا للمشاركة فى الدورة القادمة للمجموعة فى العام القادم. لم يقترح أحد دعوة الرئيس الصينى معتمدا على أن المجتمعين كافة يعرفون أن الصين طرف فى حرب تجارية شنتها عليها الولايات المتحدة وربما لا يجوز مكافأتها بعرض مشاركتها فى اجتماع مجموعة كان الهدف من إنشائها الدفاع عن مبادئ وممارسات حرية التجارة باعتبارها الأسلوب الأمثل فى نظر قادة المجموعة لتحقيق التقدم الاقتصادى العالمى.
***
من ناحيتى لم أتوقع أن يحل مؤتمر هذا العام قضية من القضايا المطروحة على موائد الحوار الدولى.. وأسبابى كثيرة.. أولها وأهمها أن أغلب الزعماء ذهبوا إلى المؤتمر وهم واثقون من أن الرئيس الأمريكى سوف يفسد المؤتمر كما سبق أن فعل فى جميع المؤتمرات الدولية التى شارك فيها ومنها المؤتمر الأخير لمجموعة الدول السبع الذى عقد فى كندا. هناك افتعل الرئيس خلافا وترك المؤتمر معلنا نيته رفض التوقيع على البيان النهائى. هذا الرئيس مشهود له بالإصرار المتعمد على إحباط أى عمل دولى يستند إلى التعددية ويخضع لقيم مؤسسية تعتمدها قواعد عمل وأعراف دولية. هذه هى طبيعة شخصية الرجل، وأقصد الرئيس الأمريكى. أقرأ عنه مبالغات عديدة وأتابع استخدامه الواثق من كفاءة الفوضى غير المنظمة على إحباط مساعى حلفاء الوضع القائم. الوضع القائم، كما وجده الرئيس ترامب، وضع يخدم مصالح أطراف كثيرة ولا يضمن لأمريكا بالضرورة «حقها» فى أن تحصل على كل ما تريد ولو على حساب الحلفاء والشركاء. أمريكا أولا. أعجبنى وصف خفيف الظل صاغه أحد الصحفيين لتصرفات الرئيس ترامب فى المؤتمرات الدولية، كتب: «يتصرف دونالد فى المؤتمرات كطفل مدلل ومشاكس، يفترش الأرض، يرفس بقدميه ولا يتوقف عن الصراخ مرددا لا لا كلما اقترب منه أحد أو طلب رأيه أو سئل».
***
كان المشهد فى بياريتز ليلة وصول الوفود وخلال اليومين التاليين، حسب وصف أحد المراقبين، مثيرا للإعجاب ولكن أيضا للعجب. الإعجاب طبعا بالطبيعة الخلابة، هذه الطبيعة التى كانت وراء سعى الطبقة الحاكمة المصرية فى العهد الملكى إلى اختيار هذا الموقع كأحد أهم مواقع التصييف فى الخارج. محظوظة كانت الإمبراطورة أوجينى. لا يذكر اسمها إلا ومعه أسماء أشهر وأعظم الفنادق والمواقع السياحية. نعرف عنها فى مصر ربما أكثر مما نعرفه عن آخر إمبراطورة آل إليها الحكم فى آخر عقود الإمبراطورية الصينية وربما أكثر مما نعرفه عن كاترين العظيمة فى روسيا وفيكتوريا ملكة الإنجليز فى أبهى عصور الاستعمار. أظن أنها كانت نموذج التقدم كما استوحاه الخديوى إسماعيل وحريم عصره، يذكر لها أو عنها أنها عندما فقدت عرشها زارت مصر سرا فى مطلع القرن العشرين بحثا عن استضافة فى القصور الخديوية المصرية. وقتها كانت رياح التغيير تحمل للأوروبيين نذرا غير طيبة. دول فى القارة غير راضية بما قسم لها من مستعمرات فى إفريقيا وتوازن قوى دقيق يختل تحت ضربات القوى القومية الصاعدة فى ألمانيا وإيطاليا والقوى اليسارية والفوضوية فى أرجاء أخرى من القارة. لست وحدى من يسمع الآن صوت رياح تتجمع على البعد تهدد استقرارا هشا فى أوروبا، وهناك فى فندق القصر فى بياريتز أرى اليأس متمكنا من رؤساء أوروبا، ومعهم السيد آبى رئيس وزراء اليابان، حتى إنهم قرروا فى بداية المؤتمر عدم إصدار بيان يلخص ما توصلوا أو لم يتوصلوا إليه نتيجة مباحثات قمتهم، وما صدر فى النهاية لم يخرج عن كونه من لزوم البرتوكول.
***
قبل ركوبه الطائرة التى كانت ستقله إلى الطائرة الرئاسية رفع الرئيس ترامب رأسه نحو السماء للحظة طالت. قال صحفيون حضروا هذا المشهد أن الرئيس أراد أن يقول لهم إنه مبعوث السماء، هو الرجل المختار، إلى مهمة مقدسة جديدة. سواء كان الرئيس يسخر من الصحفيين أو من المؤتمر الذى يستعد للسفر إليه أو كان حقا يعتقد أنه الرجل المختار أمر ليس مكان مناقشته هنا، يبقى أن الثابت لدينا هو أن الرئيس الأمريكى لم يجن لأمريكا من هذا المؤتمر إلا مزيدا من العزلة عن حلفائها الطبيعيين. الثابت أيضا أنه فشل فى تحقيق كثير من توقعاته وخططه. أذكر منها على سبيل المثال ما يلى. أولا: كان الظن أن بوريس جونسون سند وحليف يعوضه عن حلفاء يكرهون أمريكا فإذا بجونسون يرتب لمزايا تخفف من وطأة الخروج من الاتحاد الأوروبى ولو أتت على حساب التحالف المطلق كسابق العهد بين أمريكا وبريطانيا. ثانيا: كان الفشل واضحا فى محاولات ترامب كسر وحدة الأوروبيين حول المسألة الإيرانية، وهو ما دفعه إلى الخروج عن معتاده مع الصين ليعلن تراجعا من جانبه فى إجراءات الحرب التجارية والسكوت عن دعوة فرنسا لظريف، ثالثا، لم يحصل على ما يريد فى شأن دعوة روسيا للمشاركة فى المؤتمر القادم. أغلب الظن أن ترامب لن يهدأ له بال فى هذا الموضوع. ترامب فى أمس الحاجة لدعم روسى آخر فى الانتخابات القادمة أسوة بدورها فى الانتخابات الماضية وروسيا جاهزة. رابعا: راهن رئيس البرازيل، الابن اللاتينى لترامب كما يطلقون عليه فى أمريكا اللاتينية، على أن فرنسا لن تحصل على تأييد المجموعة للرئيس ماكرون فى موقفه من قضية حرائق الأمازون. الثابت هنا أيضا أن الرئيس ترامب لم يتمكن من تغيير موقف ماكرون ولا من تأمين دعم مناسب للرئيس البرازيلى المتمرد على أوروبا واتفاقية المناخ. ترامب لديه أسبابه الداخلية والإقليمية التى تجعله يشجع البرازيل على التمادى فى عنادها فى موضوع حرائق الغابات ومواجهة أوروبا. خامسا: مهما قيل فى قصة وصول جواد ظريف إلى مطار بياريتز يبقى حقيقيا وملموسا الموقف الأوروبى المتماسك ضد مختلف الضغوط الأمريكية بهدف إثارة الخلافات حول الموضوع داخل المجموعة الأوروبية واليابان معها، بل وجونسون أيضا. مرة أخرى تؤكد أوروبا أنها لن تسلم نفسها طواعية لقيادة أمريكية مشكوك فى سلامتها الذهنية وكفاءتها القيادية. أتطلع بشغف لمتابعة تصرفات أوروبا خلال عام بدأ بالفعل صباح يوم كتابة هذه السطور، هو العام الذى يتحمل فيه الرئيس ترامب بنفسه الإعداد للدورة القادمة لهذه القمة.
***
أتصور أن المؤتمر القادم، إن دعى فعلا للانعقاد فى الولايات المتحدة وبدقة أقوى فى فلوريدا وعلى أرض ومنشآت يملكها الرئيس دونالد ترامب، وإن استمرت خلال هذا العام مظاهر ومؤشرات على حلول لحظة النهاية، وأقصد نهاية عمل وصلاحية النظام الاقتصادى العالمى المتهالك الذى خططت له الولايات المتحدة ثم صاغته وقادته، وكذلك إن ظهرت على سطح العلاقات الدولية ما يعزز القناعة بأن الولايات المتحدة بإمكاناتها الراهنة ونوعية نخبتها السياسية وبخاصة الحاكمة لم تعد محل اطمئنان وثقة الدول الصناعية الأخرى، وإذا لم تستعد له أوروبا واليابان بمشروع لنظام جديد، وإن لم تحضره الصين أو حضرت تحت الحصار فسيكون انعقاده إيذانا بفوضى لم يشهد العالم مثيلا لها من قبل.
أوحت بعض تصرفات الرئيس ترامب خلال مؤتمر بياريتز بأن الرجل جاء إلى المؤتمر عاقدا العزم على عدم إثارة خلافا جسيما يتسبب فى انفراط المجموعة أو تجميد نشاطها. لم يلب توقعات أغلب المراقبين بل ترك المؤتمر يعمل ولكن فى نطاق الحدود الدنيا. أما الحدود القصوى فمجالها المؤتمر القادم فى فلوريدا تحت قيادة الرئيس ترامب وتخطيطه وفى زخم حملة إعادة انتخاب دونالد ترامب رئيسا لأمريكا.

الاقتباس
من ناحيتى لم أتوقع أن يحل مؤتمر هذا العام قضية من القضايا المطروحة على موائد الحوار الدولى. وأسبابى كثيرة. أولها وأهمها أن أغلب الزعماء ذهبوا إلى المؤتمر وهم واثقون من أن الرئيس الأمريكى سوف يفسد المؤتمر كما سبق أن فعل فى جميع المؤتمرات الدولية التى شارك فيها.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved