مدينة النور دون نور

خولة مطر
خولة مطر

آخر تحديث: الأحد 29 أغسطس 2021 - 7:20 م بتوقيت القاهرة

حديث أهل الشام اليومى متشابه جدا إلى حد التطابق وهو يختلف بعض الشىء عن تلك المدن البعيدة والقريبة أيضا. يبدأ وينتهى بالسؤال عن الكهرباء والبنزين والماء ومن ثم توابعها من التواصل والإنترنت وزيارة الأحبة والبعد عن المدن الساحلية الرطبة إلى نقاء ولسعة برودة الجبال.. حديث يبدو سرياليا فى العام 2021 وفى هذا القرن وهذه البلدان والمدن التى لم تعرف إلا بكونها مدنا للنور وإشعاعات للثقافة والمدنية والعلم والحرية حتى لو كانت فى بعض الأحيان قاصرة، فقد حافظ أهل بلاد الشام على كثير من فضائلهم، وعندما تسلسل العسس لها خلقوا لغات جديدة وفتحوا كوة فى جدار يبدو أنه يزداد علوا كل يوم إلا أنهم بقوا يحفرون ويحفرون دون ملل عن فضاء لأوكسجين لا تراقبه عيونهم الثاقبة.
***
كل لقاء فى بلاد الشام يبدأ عن ساعات الكهرباء الرسمية ثم ساعات «الموتور» أى المولد الكهربائى الذى بحاجة إلى مازوت والمازوت مفقود يا ولدى مفقود أو موجود طبعا لمن يتحمل مبالغ السوق السوداء.. هى مرحلة انتعاش للسوق السوداء من الدولار فسعره فى السوق قد يصل إلى العشرين ألف ليرة لبنانية ومثله أو أكثر الليرة السورية.. والبنزين فى المحطة بسعر وفى نفس المحطة بسعر آخر لمن يملك «فرش دولار» أى لمن يستلم دولار جديد فالقديم نهبته البنوك أو تحفظت عليه أو احتجزته فى سوابق لم تشهدها حتى أكثر الحكومات فشلا وفسادا وتخلفا!
***
نسى الشعب اللبنانى البراد واكتفى بصناديق الثلج أو قطعة الثلجة الملفوفة بالخيشة كما كان أجداد جدادهم يفعلون قبل أن تصل الكهرباء إلى البلدات الجبلية، إنما المدن كانت دوما سباقة لكل التقدم ولكنها الآن تزحف تدريجيا نحو الانحدار فى بئر لا قعر له ربما. فكلما قال اللبنانى أو اللبنانية هذه أسوأ مرحلة تسارعت وتيرة الانهيارات وعلى كل الأصعدة ليكتشفوا أن بئرهم أعمق من كل آبار الكون ربما!!! مدينة النور دون كهرباء ومدينة الموسيقى والمسرح والفن الراقى والفرح معتمة حد الخوف.. شوارعها نهارا خالية إلا من طوابير السيارات المتسولة للبنزين وليلا ترقد بيروت فى عتمة لم تعرفها حتى فى سنوات حربها الأهلية الطويلة.
***
هناك طوابير للمازوت وللبنزين وللخبز والمولدات وحتى الماء الذى بدأ هو الآخر فى الاختفاء التدريجى.. بلد نوابيع الماء النقية التى تغنى بها فريد الأطرش ورقصت عندها صباح وتغزلت فيروز بكلماتها الرقيقه بها، هى نفسها تبحث عن قطرة ماء لتدفع ثمنها بـ«الفرش دولار» أيضا.. يقول اللبنانى لولا أولادى وبناتى وعائلتى فى الخارج لتحولت إلى إنسان الكهف فكل بديهيات الحياة هى ترف فى ترف فى لبنان اليوم، لبنان الآن، لبنان الحاضر فى القرن الحادى والعشرين.
***
كم محزن أن تعشق مدينة النور التى كنت تتسلل إليها كلما خنقتك مدن الملح تلك، حيث تترك لساقيك العنان فتمشى من مقهى إلى آخر ومن مكتبة إلى كشك جرائد بشارع الحمرا حيث ينصحك البائع بقراءة هذه المقالة أو عمود الرأى ذاك لهذا الكاتب أو حتى يحدثك عن آخر رواية قرأها ويناقشك فى تفاصيل السياسة الدولية وازدواجية معايير الولايات المتحدة وتحيزها لإسرائيل أو كيف دمرت العراق ذاك البلد العريق الآخر والذى يعانى ويأن كما لبنان وسوريا.. مذهل كم يتساوى العرب فى معاناتهم اليومية ويقارنون فيما بينهم فتقول تلك الفنانة الصديقة فى رسالة صوتية «قلقانين عليكم فى بيروت فنحن أوضاعنا بتضل أفضل بشوية» تبقى «الشوية» هذه النسبية جدا تفرق بين عربى هنا وآخر هناك فى تلك المدينة حيث تجمعهم نفس الطوابير رغم تباعد المسافات بمئات الكيلومترات وآلاف الكيلومترات الضوئية عن العالم الآخر!
***
يبرمج المواطن والمواطنة فى هذه المدن أيامه على الساعات التى تأتى فيها الكهرباء والماء إذا «تكرمت» وحضرت، وإذا تكرم المسئولون وأخبروه بمواعيدها وإلا فتداهمهم العتمة ليلا والحر الخانق فى رطوبة أغسطس «آب» نهارا. تغيرت المواعيد للأكل والنوم والقيلولة وحتى العادات الغذائية تغيرت فاللحم شح أو أصبح بعيد المنال أو للمناسبات السعيدة والدجاج «الفروج» أيضا ليس فى المتناول والخضروات إما ملوثة أو «أورجانيك» باهظة الثمن! هذه يوميات الغالبية العظمى ولكنها تعيش متوازية مع يوميات مختلفة بل متناقضة حيث العربات الفاخرة آخر موديل والبنزين المتوافر لمشوار الكوافير وعمليات التجميل بالدولار والمطاعم بفواتيرها المليونية!!! ومنتجعات ونوادٍ ليلية وموسيقى وصخب بعيدا عن صخب المعارك اليومية على الخبز والبنزين والمازوت.. يعيش العالمان متوازيين حد المرض وكأن هذا لا يعرف ذاك أو كأنهما فى كوكبين بعيدين.. تدخل السيدة محل المجوهرات وتخرج بما قل حجمه وارتفع ثمنه وتمضى قريبة من ذاك الذى ينبش فى مكبات الزبالة عن بقايا طعام.. أو تنهر ذاك الطفل الذى يمد يده لها لتعطيه خمسة آلاف ليرة ليحضر منقوشة الزعتر ويسد جوعه.. خمسة آلاف ليرة فى نفس اليوم الذى أصبح فيه سعر الدولار الواحد 20 ألف ليرة!
***
ترقد بيروت فى عتمتها تبحث عن نور كان هى.. ومثلها مدن وعواصم عربية أصبح فيها الأمل فى صباحات أيامها هو توفر الكهرباء والماء والخبز والدواء ودمتم!!

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved