فقدان ذاكرة

داليا شمس
داليا شمس

آخر تحديث: الأحد 29 سبتمبر 2013 - 8:00 ص بتوقيت القاهرة

معظم الشهود وعلماء الآثار والمتخصصين يصفون المنظر نفسه، فى العراق كما فى مصر، ولكن قطعا بوتيرة متفاوتة: خفافيش الظلام تنتشر ليلا بحثا عن الكنوز الخبيئة، يحفرون فى التلال على مرمى البصر أو أسفل المنازل، فتتحول الأرض تحت أقدامهم إلى قطعة جبن مليئة بالثقوب.. جنوبى بغداد تم تصويرهم بواسطة الأقمار الصناعية، منذ العام 2004، لكن يتم دوما تصنيف الحال كنتيجة طبيعية للفوضى التى تعم البلاد. من ناحية أخرى، يتم التأكيد، فى أغلب التقارير الدولية الصادرة بهذا الصدد أن السرقة والنهب يتمان على أيدى أشخاص على درجة عالية من الاحتراف، لديهم الأدوات اللازمة، ويعرفون القطع الأصلية من المستنسخة، سواء فى مصر أو العراق. بالطبع هناك بعض الأسر التى تسكن فى رحاب المواقع الأثرية، يحفرون الأنفاق بشكل عشوائى للوصول إلى بعض القطع تحت بيوتهم، لكن الأهم هو عمليات السرقة الممنهجة والدقيقة.

ولأن العراق هى المختبر، بالنسبة لما يحدث فى المنطقة، فمن المفيد الرجوع إليه من وقت لآخر والتذكير به على الدوام، أما سورية رغم أنها الوضع الأسوأ، لكن لا يمكن حصر ما فقدت من آثار بشكل دقيق لصعوبة العمل على الأرض والوصول إلى أماكن السرقة والتخريب، فى حين رأينا صورا مؤسفة لا تصدقها عين لمساجد قديمة وسوق حلب وخلافه تم تدميرها بالكامل.

●●●

منذ حوالى سنتين نظمت جامعة شيكاغو الأمريكية معرضا عن تراث العراق المنهوب بعنوان «كارثة»، ووضحت الصور كيف تم تدمير 25% من المواقع الأثرية جنوب العراق، وكيف تحولت بابل إلى ثكنة عسكرية، تمر بها الدبابات وتهبط طائرات الهليكوبتر فتتحول بعض لوائح الكتابة المسمارية إلى تراب لأنها لا تحتمل، أو يباع بعضها بخمسين دولارا القطعة. مدينة أور التى ولد فيها سيدنا إبراهيم أصابتها أكثر من أربعمائة قذيفة خلال الحرب. وجامعة المستنصرية فى بغداد التى يرجع تاريخها إلى القرن الثالث عشر الميلادى تعرضت هى الأخرى للقصف. فى حين تم التركيز على سرقة متحف بغداد الذى فقد حوالى 80% من مجموع قطعه والتى يصل عددها إلى 150 ألف عمل ــ تم استرجاع بعضها بواسطة الإنتربول ــ إلا أن الأثريين يشددون على أن تدمير المعابد والقرى والمواقع القديمة ذاتها هو الأخطر، لأن القطع الأثرية تفقد الكثير من قيمتها بالنسبة لدراستهم إذا ما انتزعت من إطارها الطبيعى والسياق الذى صنعت فيه، ما يفقد الإنسانية الكثير والكثير. وقياسا على ذلك نحن ننزع إنسانا أو مواطنا عراقيا كان أو مصريا أو أفغانيا من بيئته الطبيعية، ليصبح بلا ماضٍ كمن فقد الذاكرة، لكى تقوم بعض الجماعات المنظمة ببيع تاريخه فى سوق الفن الدولية بمبالغ طائلة، وهى السوق التى تأتى فى الترتيب الخامس عالميا بحسب أرقام الأعمال.

●●●

خلال العشر سنوات الأخيرة عرض موقع «إى باى» للبيع بالمزاد على الانترنت مجوهرات سومرية ولوائح مسمارية، كما ضبطت قطع أخرى تخص العراق فى جاليرى «موسبيف»(Mospief) وطالبت المحاكم قاعة العرض برد أكثر من مائتى قطعة أثرية إلى العراق.

وكان المجلس الأمريكى للسياسات الثقافية (ACCP) قد طالب بتعديل القانون بما يسمح باستيراد القطع الأثرية من العراق وبما يسهل تصديرها، الأمر الذى أغضب المتخصصين بشدة لأنهم كانوا يرون كيف كانت تحمى قوات التحالف وزارة البترول العراقية، بينما تركت المواقع الأثرية للنهب على مرأى ومسمع الجنود، ذلك بمخالفة مواد اتفاقية لاهاى لعام 1954 واتفاقية اليونسكو لعام 1970 التى توكل مهمة الحفاظ على التراث الثقافى إلى قوات الاحتلال.

ولكن من الواضح أن مصالح جماعات إسلامية مثل القاعدة وجيش المهدى وميلشيات أخرى مسلحة تلاقت مع مصالح مافيا الآثار والساسة، فاجتمعوا جميعا على ضرورة بيع التاريخ لشراء أسلحة الدمار فى هذه المنطقة التى ضمت أعرق الحضارات الإنسانية.. هذا على الأقل هو ما أثبتته بعض التحقيقات الصحفية التى أجراها بعض المحققين والمتخصصين الأجانب، بينما العرب غافلون، منشغلون بما يفقدونه من بشر وأرواح وأرزاق.

●●●

فى مصر أيضا تتضارب الأقاويل، أشياء وقطع ومبانٍ فقدناها فى ملوى وميت رهينة ودهشور وأبوصير وسيناء وأبيدوس وكفر الشيخ والإسكندرية وسقارة وأسوان... كنائس فى البحيرة والمنيا وغيرها.. قطع من المتحف المصرى وأخرى من نظيره الإسلامى... يؤكد البعض وينفى المسئولون.. وينشر المجلس العالمى للمتاحف قائمة ببعض المسروقات بهدف منع بيعها فى السوق العالمية... ولكن قد تتعرض لمصير بعض المسروقات العراقية التى خُزنت فى سويسرا لخمس سنوات ثم تم طرحها فى الأسواق بعد ذلك، إذ يشير بعض المراقبين إلى مسارين لتهريب القطع المسروقة: الأول يمر بإسرائيل، ثم الأردن ومن بعدهما إلى لندن وطوكيو، والآخر يمر بالمملكة العربية السعودية أو كردستان. نشرت هذه المعلومات والتقارير بالفعل فى صحف مختلفة وبواسطة جهات غربية، وقامت مؤخرا مجموعة من المتخصصين والمهتمين فى مصر بطرح مبادرة بعنوان «حوش اللى اتسرق منك» لمواجهة سرقة الآثار، وشعارها « انشر الصور وقفلها على الحرامية».. أطلقت المبادرة أربع شابات هن ياسمين الضرغامى ومنة الله الدرى، وأمنية عبدالبر ومونيكا حنا، ربما لو انضممنا جميعا إليهن نستطيع أن نوقف سرقة الهوية وتدميرها... فمحو التاريخ لا يقل أهمية عن فقدان البشر، فأمل كل بنى آدم على الأرض هو أن يترك أثرا، سواء عملا جليلا أو طفلا يحمل اسمه وذكراه... وفى مراحل معينة يكون الهدف هو محو التاريخ لخلق أشخاص بلا ماضٍ ولا ثِقل يجذبهم للمكان وبالتالى تقل مقاومتهم ويسهل تحويلهم لمجتمعات معولمة ومحكومة من نخبة العالم.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved