عن الماء الذى فى الجوف

نبيل الهادي
نبيل الهادي

آخر تحديث: الأحد 29 سبتمبر 2019 - 9:20 م بتوقيت القاهرة

زرت من سنوات عدة أحد المنتجعات السكنية فى غرب الطريق الصحراوى السكندرى وكان لا يزال فى طور الإنشاء، واندهشت للغاية من وجود بحيرة الماء الشاسعة فى هذه الصحراء التى أعرف أنه لا زرع فيها ولا ماء، وسألت مضيفنا وهو صاحب الأرض من أين لك هذه المياه، فقال على ما أتذكر «من عند ربنا» وزاد بسعادة أنه فى طور إحضار آلاف البط البكينى (طبعا ستتمتع تلك الكائنات اللطيفة بالبلبطة فى تلك المياه).
***
لا أدرى طبعا إن كان قد أحضرهم فعلا أم لا. زرت بعد ذلك وعبر السنين العديد من المنتجعات ورأيت العديد من ملاعب الجولف الخضراء والتى تتباين خضرتها مع صفرة الصحراء الشاسعة بالقرب منها (أحصيت على الأقل أكثر من عشرة ملاعب جولف فى القاهرة وحدها معظمها ــ إن لم يكن كلها ــ فى الصحراء).
ولأن إبقاء نجيلة تلك الملاعب بهذه الخضرة يتطلب كميات هائلة من المياه تعجبت دائما من التركيز على دور المواطنين ومنهم الكثير من البسطاء فى توفير المياه فى المنازل (مع اعترافى بضرورته) وتجاهل مثل هذه الاستخدامات للمياه الثمينة فى الصحراء (نقل المياه للصحراء، كما فى المدن الجديدة حول القاهرة يتطلب مواسير للمياه بأطوال قد تصل لعشرات الكيلومترات.. ولو عرفنا أن متوسط الفاقد من شبكات المياه فى مصر يصل إلى حوالى الثلث لأدركنا كم الخسارة من المياه الناتجة فقط عن نقل المياه التى تستهدف ملاعب الجولف فقط). ولكن نقل المياه لهذه المسافات الكبيرة أيضا يتطلب طاقة حتى تتمكن محطات الرفع من دفع المياه من محطات التحلية أو المعالجة إلى الأماكن المستهدفة. تخيل كم الفاقد من الماء والطاقة لإيصال المياه حتى تبقى ملاعب الجولف خضراء. طبعا ليس عندى إحصاء لمسطحات ملاعب الجولف ومستخدمى تلك الملاعب (وأتمنى فى القريب أن يتشجع أحد أو إحدى طالباتى لعمل مثل هذا البحث) حتى يمكن تبرير استمتاع عشرات اللاعبين مثلا وإهدار هذه المياه والطاقة من أجل ممارسة رياضتهم المفضلة. واستخدام مياه النيل فى رى بعض تلك الملاعب لا يترك الفرصة لاستخدام تلك المياه فى أماكن أخرى لأن نصيب المياه من النيل محدود وعلى ذلك لجأ ويلجأ العديد من أصحاب الأراضى فى الصحراء لحفر الآبار إما بصورة رسمية أو فى الغالب بدون الموافقات الرسمية. وعلى ذلك تحولت المناطق المحيطة بالطريق الصحراوى السكندرى من صحراء صفراء لا تسر الناظرين بالضرورة إلى مناطق خضراء بعضها به أعناب والآخر به أشجار أخرى مع بعض المناطق التى تحولت إلى منتجعات سكنية تحيط بمداخلها النجيلة الخضراء والزهور وأحيانا نوافير المياه كأنك داخل إلى الجنة التى هبطت لك على الأرض، وذلك من خلال استخدام المياه الجوفية وخاصة المناطق المستصلحة.
***
ومنذ بدأت حركة استصلاح الأراضى النشطة فى آخر السبعينيات وبلغت ربما ذروتها فى التسعينيات (أنا أكتب من ملاحظاتى الشخصية كعابر لهذا الطريق عدة مرات فى العام الواحد على امتداد أكثر من ثلاثين عاما). اعتمد أغلب المستصلحين المصريين على المياه الجوفية من خلال دق الآبار التى تصل للخزان الجوفى للمياه والذى قد يبلغ من العمر مئات الآلاف إن لم يكن الملايين من السنين.
منذ سنوات قليلة بدأ البعض فى تحلية مياه الآبار الجوفية التى ازدادت ملوحتها للحد الذى أثر على الزراعة فى تلك المنطقة وهو ما ينذر بمشكلات كبيرة فى الخزان الجوفى فى تلك المنطقة والذى يستخدم لرى حوالى مليون وثلاثمائة ألف فدان تقريبا. وكم تمنيت أن يكون لدينا من الدراسات المتطورة التى تساعد المسئولين فى اتخاذ ما يلزم لإدارة الخزان الجوفى. وتمنيت أن نستفيد من خبرات الأردن فى إدارة المياه الجوفية أو خبرات سلطنة عمان والتى تستخدم النماذج الحاسوبية للمياه الجوفية لتحديد الحد المستدام للسحب من الآبار والذى يؤثر على المساحة الممكن زراعتها. كانت نتيجة دراسة عرضها أستاذ فى جامعة فى سلطنة عمان أنهم بحاجة لخفض السحب من الآبار إلى النصف فورا حتى يمكن الحفاظ على الخزان الجوفى بجودة مياه مقبولة لمدة سبعين عاما ولا أدرى ماذا ستكون النتيجة لو أجريت دراسة مماثلة للمناطق المروية بالمياه الجوفية فى مصر وهى كثيرة. وفى ظل حفر الآبار غير المراقبة والمصرح بها سواء فى الدلتا أو فى مناطق الاستصلاح حول الطرق الصحراوية المنتشرة فى مصر ستمثل دراسة مماثلة تحديا كبيرا ولكنه أساسيا أو ضروريا للغاية.
لا ينتشر استخدام المياه الجوفية فى الصحراء فقط ولكن جزءا كبيرا من المزارعين فى الوادى والدلتا يقومون بحفر الآبار لاستخدامها فى الرى وذلك لتعويض النقص فى المياه المتوافرة للرى.. وسهل من ذلك أن الخزان الجوفى تحت الدلتا والوادى قريب من السطح وأغلبه ذو جودة مقبولة. ولكن ماذا سيحدث مع استمرار السحب من هذا الخزان وخاصة مع احتمال نقص الوارد من المياه بسبب سد النهضة؟
أتخوف من أننا كمن يسير وهو معصوب العينين بسبب غياب المعلومات الدقيقة عن الماء الجوفى فى المناطق المختلفة فى مصر وهو ما يمثل ضرورة قصوى لإدارة عالية الكفاءة لمخزون المياه الجوفى لدينا.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved