لأستراليا دور يتجدد

جميل مطر
جميل مطر

آخر تحديث: الأربعاء 29 سبتمبر 2021 - 9:15 م بتوقيت القاهرة

أبناء جيلى لا شك يذكرون كما أذكر جنود أستراليا يمشون فى شوارع القاهرة بلباسهم الرسمى يثيرون بعجرفتهم حنق المصريين وغضبهم. أذكر كيف كان أهلى يتفادون السير على رصيف يمشى عليه هؤلاء الجنود، ويتجنبون المحال التجارية التى يتعامل معها الجندى الأسترالى والمقاهى التى يرتادها. كان الأسترالى كالجوركا يأتى إلى مصر فى خدمة جيش ملكة بريطانيا، يتصرف كالمحتل ولكن أسوأ. كان يفتعل الشجار مع الوطنيين، أى المصريين، كان ينهب ويخطف ويتحرش.
انتهت الحرب العالمية، ولم يرحل عن مصر كل جنود أستراليا. بقى منهم جنود مع جنود بريطانيا يحرسون قناة السويس ويراقبون تطور الحركة الوطنية المصرية. رحلوا بعد توقيع اتفاقية الجلاء ولكن بقيت حكومتهم برئاسة روبرت منزيس تمارس أقصى سياسات العداء ضد الدولة المصرية منذ شاءت حكومتها أن تؤمم شركة قناة السويس. أذكر لأستراليا، وكنت شابا واعيا لا أتلقى دروس الوطنية من أب أو أخ أكبر، أذكر أنها، وهى القارة الواقعة فى آخر الدنيا، اختارت أن تقف منا كمصريين وغيرنا من العرب ودول عدم الانحياز موقف العداء وتقرر دعم إسرائيل فى كل المجالات وبخاصة فى الأمم المتحدة، وبالتالى غرست فى نفوس أجيال مصرية متعاقبة شكوكا ثابتة فى نواياها تجاهنا وتجاه جميع الشعوب السمراء والصفراء فى العالم النامى عموما.
انتهت حرب السويس. وعلى الفور سقط أنطونى أيدن وبدأت بريطانيا العظمى الانسحاب من جميع مستعمراتها الواقعة شرق السويس ثم من مستعمراتها الأفريقية. انهارت الإمبراطورية وصارت لندن تستحى من صفة العظمى التى درجت البشرية على إلصاقها ببريطانيا على امتداد قرون. كان نظام عالمى جديد قد نشأ بقواعد عمل جديدة وانقسم العالم إلى شرق وغرب ونشبت حرب باردة كان لبريطانيا فيها دور أقل شأنا من دور بريطانيا القائد والموازن فى عصر توازن القوى. قامت حرب فى شبه الجزيرة الكورية وحرب فى فيتنام وحرب فى أفغانستان. ظهرت دول واختفت دول. غابت أفكار وأيديولوجيات وسادت أفكار وأيديولوجيات أخرى. تغيرت معالم الدنيا وبقيت أستراليا بسياستها الخارجية ودورها الفريد معلما ثابتا لا يتغير. اعتاد العالم على دور لأستراليا فى خدمة قيادة المعسكر الغربى حتى جاء يوم من أيام الأسبوع الماضى احتلت فيه أستراليا العناوين وحظيت باهتمام صناع الاستراتيجيات فى الشرق كما فى الغرب.
•••
تولى جوزيف بايدين رئاسة الجمهورية الأمريكية فى وقت عصيب. تولى المنصب الأهم فى العالم بعد مجموعة رؤساء تناوبوا على المنصب، ارتكبوا جميعا بدون استثناء أخطاء اجتمعت عواقبها فى عهد آخرهم، جوزيف بايدين. هذا على الأقل ما يلمح به أحد المتعاطفين معه. تسمعه فلا تصدق أن شخصا له خبرة طويلة بالسياسة فى أمريكا يقول ما يقوله ويصدر مثل هذه الأحكام. عندما تسأل كيف تسنى للرئيس بايدين أن يتخذ قرار تسليح أستراليا بغواصات تدار بالدفع النووى وهو السياسى العريق فى مدرسة الإيمان بعقيدة مقاومة انتشار الأسلحة النووية، الأدهى أنه اتخذ القرار وهو على علم كامل بعقد تجارى يلزم فرنسا الحليف المهم فى الحلف الغربى بتصنيع سرب غواصات لحساب أستراليا، عندما تسأل هذا السؤال يأتيك فيض من إجابات غير مقنعة، وبينها الاتهام بتدخل جديد من جانب المجمع الصناعى العسكرى فرض على القيادة السياسية اتخاذ هذا القرار الخطير الذى أضاف صدعا فى علاقة داخل حلف الأطلسى تزداد توترا.
سيرة الأخطاء تذكرنى بسير مماثلة تحفل بها كتب كبار الذين أرخوا لعلاقات وحروب أوروبا فى القرون الماضية. كل القادة السياسيين أخطأوا متسببين فى عواقب كثيرا ما كانت مدمرة. فى السيرة الأحدث يتهمون الآن الرئيس رتشارد نيكسون وتابعه الألمانى العبقرى هنرى كيسنجر بأنهما عن عمد وإصرار أخرجا الصين من عزلتها لتصير جزءا مندمجا فى مجتمع الدول. ثم جاء من بعدهما من ساهم فى وضعها على طريق التقدم الاقتصادى المتسارع الوتيرة. جاء من يستثمر فى مشاريع إنمائها ويحيطها بترتيبات أمان واستقرار لم تتح مثلا لكوريا الشمالية وإن أتيحت لفيتنام بعد أن تسببت فى خروج القوات الأمريكية منهزمة من شبه جزيرة الهند الصينية. فى الحالتين تشابهت التبريرات. «دعمنا الصين الشيوعية فى القرن الماضى لتصبح ندا فى صراع مع الاتحاد السوفييتى. نهضت الصين وصارت هى نفسها ندا لنا. الآن ندعم فيتنام لتتمكن من صد توسعات الصين فى بحر الصين الجنوبى. وسوف ندعم الهند ونحثها على تصعيد إمكاناتها اللازمة للأمن والحرب حتى تصير ندا للصين فى جنوب آسيا. مشكلتنا مع الهند قديمة. الهند لا ترتاح إلى الغرب كما أن إرث نهرو فى كره التحالفات ما يزال مؤثرا فى الدبلوماسية الهندية رغم كل ما أصابها من تأثيرات ثقافة عنصرية وتطرف دينى فى ظل حكم حزب متطرف. فى الوقت نفسه تنبهنا إلى الدور الأسترالى المعروف والمعتاد، وربما أيضا تحت إلحاح أو إيحاء اليابان تأثرا بضغط الحملة الأمريكية المتصاعدة لإقناع الرأى العام الأمريكى والمجتمع الدولى بأن حربا باردة جديدة مع الصين نشبت بالفعل تحت مسمى المنافسة الاستراتيجية. كان هناك أيضا التوتر الطارئ والحاد فى العلاقات الأسترالية الصينية، فقررنا، ضرورة العمل بالسرعة الممكنة لتلبية حاجة أستراليا إلى الحماية وإشباع الرغبة فى تنشيط مكانتها كجناح حيوى لمعسكر الرجل الأبيض بشكل خاص والحلف الغربى بشكل عام، وكانت الصيغة الجاهزة أمام أستراليا ثم أمامنا هى تزويدها بسرب الغواصات من ذوات الدفع النووى». رأى من أمريكا له وجاهة ومنطق ومنسجم مع حال التدهور المتسارع فى تماسك الغرب.
•••
التوقيت مناسب. فالإقليم كله منفعل بالفوضى والإدارة السيئة التى شوهت عملية الانسحاب الأمريكى من أفغانستان وكشفت عن مفاوضات الدوحة بين أمريكا والطالبان خيانتها للشعب الأفغانى. كادت الثقة فى الولايات المتحدة تنعدم، حتى داخل أستراليا نفسها التى لم تكن شفيت بعد من صدمة عقوبات الصين الاقتصادية. فرضت عليها هذه العقوبات كرد فعل بالفعل عنيف ماديا ومعنويا للدعوة التى وجهتها أستراليا للصين للكشف عن مصادر وظروف انتشار فيروس الكورونا فى ووهان. فى رأيى أخطأت أستراليا بتوجيه هذه الدعوة وأخطأت الصين بفرض عقوبات صارمة على الاقتصاد الأسترالى لا تتناسب وتفاهة الطلب الأسترالى.
تراكمت الأخطاء من جميع الجهات، وفوقها جميعا موافقة أمريكا على تزويد أستراليا بالغواصات نووية الدفع، هنا أظن أن غطرسة النخبة الحاكمة الأسترالية وابتعاد سلوكياتها عن التواضع، بالإضافة إلى مسحة من «البلطجة» اشتركت فيها الإدارات الحاكمة فى واشنطون وكانبرا ولندن، أضف أيضا اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية الفرنسية وحال الترقب المتوتر لشكل أوروبا ومزاجها بعد رحيل المستشارة ميركل من مسارح السياسة فى ألمانيا وأوروبا بل والغرب عامة، جميعها عوامل ساهمت فى تضخيم آثار صفقة الغواصات وأصدائها فى الصين ودول إقليم جنوب شرق آسيا وفى عواصم الغرب وموسكو وبعض دول الشرق الأوسط مثل إيران وتركيا وفى إسرائيل بطبيعة الحال.
•••
أردد مع آسيويين أعرفهم خشيتهم من مستقبل يشهد نفوذا أقوى وهيمنة لأستراليا فى إقليمى جنوب شرق آسيا وجنوب آسيا. المعروف أن منظمة الآسيان تمر فى مرحلة ضعف، وهى ليست المرحلة الاستثنائية فى تاريخها. إذ لازمها الضعف والتفكك منذ نشأتها بسبب التدخل المكثف من دول كبرى من خارج الإقليم. نحن هنا فى الشرق الأوسط نتفهم قلق الآسيويين فى جنوب شرق آسيا لأن قلقا مماثلا بل أشد يسود فى عديد دوائر التفكير السياسى الحر فى العالم العربى. أهملنا فى حماية وتطوير جامعة الدول العربية، تركنا منظمتنا الإقليمية تتدهور ومعها مشاريع أمننا القومى حتى باتت تسعى للهيمنة علينا وعلى مصائرنا دول إقليمية غير عربية. ارتكب بعض حكامنا أخطاء جسيمة حين سمحوا لدول فى الغرب التدخل فى شئوننا وحين عجزنا عن بناء أمن قومى خاص بنا وحين انفرطنا. هناك أيضا فى آسيا أمنهم مهدد ودواعى الانفراط غير قليلة والتدخل الخارجى جاثم فعلا.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved