عن ذاكرة الرائحة والطعم

تمارا الرفاعي
تمارا الرفاعي

آخر تحديث: الخميس 29 أكتوبر 2015 - 7:05 ص بتوقيت القاهرة

تسمرت فى مكانى وكأن ثمة ما يمنعنى من المشى. توقف بى الزمن فاختلطت على الرؤى، تسللت الرائحة إلى أعمق ما فى نفسى فنظرت حولى تائهة، لم أعد أعرف أين أنا. ثم بدأ عقلى بفرز هذه الفوضى وتحويلها إلى فكرة: نبتة الكولونيا، أو كما يسميها الزراعيون: مسك الليل، تلك النبتة التى تتفتح فى ليالى دمشق فتغلف حاراتها الحميمة برائحة سكرية، تلك الرائحة التى تستقبلك عند خروجك من سهرة فى وقت متأخر من الليل فى دمشق فتتغلغل فى أنفك وصدرك ريثما تصل إلى سيارتك أو إلى بيتك. كثيرا ما تكون رائحة تلك النبتة آخر ما يشمه الدمشقى قبل أن يخلد للنوم فى ليالى الصيف الحارة.
***
هنا فى القاهرة، استقبلتنى رائحة الكولونيا وأنا فى حديقة منزل كنت مدعوة على العشاء عند صاحبته. شلت قدماى وضعت فى العطر، حاولت أن أشرح لزوجى علاقتى بالرائحة فرد على «قصدك الياسمين؟». كيف نشرح نحن السوريون، وبعيدا عن صورة الياسمين، التى باتت صورة نمطية عن دمشق، أن ثمة روائح وأصواتا ونكهات متعددة تأتينا من هناك، من ذاك البلد الذى تلفه اليوم رائحة الموت والبارود؟
للذاكرة قدرة على استرجاع أحاسيس ووسائل تواصل مع ما حولنا بشكل يبقينا هناك رغم أننا هنا.
أفرط حبوب الرمان فى المطبخ فتظهر أمامى صورة أمى وهى ترش اللآلئ الحمراء فوق فتة الدجاج لتزينها. «تناسق الألوان واختلافها كتير مهم على السفرة الشامية»، تشرح أمى، وهى ترش البقدونس المفروم بين حبات الرمان على وجه طبق الفتة الأبيض. تسترجع أمى دروسا لطالما شرحتها لنا جدتى فى محاولاتها أن تورِث أمى أولاً ثم أنا لاحقا قواعد دمشق غير المكتوبة. «لازم السفرة يكون عليها اللون الأبيض والأحمر والأخضر، يكون فى تنوع بالألوان، لأنه العين تأكل قبل الفم».
***
ثمة قسم فى اليونيسكو، المنظمة المعنية بالحفاظ على الثقافة، يهتم بتوثيق التراث غير الملموس. لم ألتفت إلى هذا القسم كثيرا قبل أن تطال يد الحرب بلدى فتنتزع منه عددا غير مسبوق من الأرواح وما كانت تعيش فيه من مبانى وشوارع وعادات وتقاليد. أجتمع من خلال عملى بسوريين أجبرتهم الحرب على الفرار، سوريون تركوا بيوتهم ليعيشوا فى مخيمات لجوء فى الدول المجاورة لسوريا. أفكر كثيرا فى الحال المفزع الذى وصل إليه السوريون فى شتاتهم وضياعهم وفقدانهم لكل شىء، وخصوصا تآكل الذاكرة، ذاكرتنا، وخاصة ذاكرة الروائح المتسللة من على المواقد والمطابخ والخارجة من الأطباق المتراصة على الموائد. هل سيعرف جيل سوريا الناشئ والذى يعيش اليوم فى خيام على قارعة الحياة، أهمية حرق أجنحة البصل قبل وضعها فوق طبق الـ«حراق أصبعه»؟ هل ستعرف فتاة عمرها اليوم 14 سنة، تعيش على الكفاف منذ أربع سنوات أنه يجب دق حبوب المسكة جيدا قبل خلطها فى الحليب فى آخر مرحلة من مراحل غلى المهلبية وليس فى نصفها، حتى لا تطغى على المهلبية طعمة مرارة؟ هل سينشأ جيل لا يعرف الفرق بين أثر دبس الرمان على الفتوش أو أهمية خلط ملعقة سكر فى حشوة ورق العنب الصيامى؟
المطبخ الشامى ليس فقط مادة تتغنى بها ست البيت ويتم من خلالها الحكم على سيدة بأنها أصيلة أم لا. هى عالم من النكهات والروائح والتراث الذى ينتقل عبر الأجيال دون أن يشكك بإمكانية الحصول على «رشة جوزة الطيب» أوكمشة فستق مطحون». وكما رائحة مسك الليل فى الصيف وحرق المازوت فى الشتاء، ثمة أحاسيس يأججها الغياب، يرفعها إلى مرتبة الشرف، يضخم الفراق والحنين أثرها ربما، فمن فى سوريا يحب رائحة حرق المازوت؟ لكننى أسترجعها مع انخفاض درجة الحرارة قليلاً فى الصباح، أسترجع المدفأة الصوبيا فى بيت جدتى وراحة قشر البرتقال، التى كانت تضعه فوق المدفأة حتى يغطى على رائحة المازوت.
***
ثمة ذاكرة يحتاج السوريون اليوم أن يبدأوا بتوثيقها منعا لاندثارها، بدءا باللهجة واستخدام بعض المصطلحات والأمثال، مرورا بالمطبخ والعادات والممارسات الحياتية المرتبطة بالطعام. لكن كيف نوثق رائحة مسك الليل، التى تغطى ليالى دمشق الحارة بنكهة العسل، فنندس فى أَسرتِنا واثقين أن هذه الرائحة ستنتظرنا حتى آخر الصيف؟

 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved