فن التعليم

محمد زهران
محمد زهران

آخر تحديث: السبت 29 أكتوبر 2016 - 9:30 م بتوقيت القاهرة

لقد كُتبت مئات الصفحات وألوف الكلمات عن أهمية التعليم لتقدم الأمم.. إلخ، ولكن ماذا بعد؟ هناك العديد من الأسباب التى تجعل التعليم فى ذيل قائمة إهتمامات الكثير من الأمم، منها أن الكثير من الدول لا تعرف بالتحديد ما هى أهمية التعليم لتقدمها، هذه الدول تريد أيدى عاملة كثيرة ورخيصة ولديها بعض المتخصصين الذين يعملون فى بعض الصناعات التى تحتاجها هذه الدول وكفى، فما الحاجة للاستثمار فى التعليم؟ فى الرد على هذا السبب أقول أن المواد التعليمية ليست الأساس الأول لأن العلم يتغير ولكن طريقة وعملية التعليم هى المهمة لأنها تحسن من طريقة تفكير الإنسان وتهذب من أخلاقه وهاتان الصفتان تحسنان الحياة بكاملها لأنه حتى الأيدى العاملة فى الأعمال البسيطة ستجد طرق لتحسين الخدمة والمنتج إذا تعلمت بطريقة صحيحة والتعامل بين الناس سيتحسن إذا هذبه التعليم (ولكن دعنى أضع بين قوسين أن الفقر المدقع وعدم توافر الحاجات الأساسية للإنسان هى قوة تعاكس قوة التهذيب فى الإنسان فالعلم وحده لا يكفى).

من الأسباب الأخرى التى تجعل الدول لا تهتم بالتعليم قلة الموارد وأن هذه الدول ترى أنه ينبغى استخدام هذه الموارد القليلة فى أشياء ملحة على المدى القصير أكثر من التعليم، ردًا على هذا السبب نقول أن التعليم الجيد لا يحتاج أكثر من مدرسين يملكون الموهبة والإرادة وطلبة تريد أن تتعلم، توجد الكثير من الكتب عن قصص نجاحات ملهمة للغاية فى التعليم فى دول ومناطق فقيرة للغاية؛ فمثلًا كتاب (I Become a Teacher: A Memoir of One-Room School Life in Eastern Kentucky) أو "لقد أصبحت مدرسًا" للكاتب كراتيس ويليمس (Cratis D. Williams) والذى يحكى مذكراته فى كيف أنه أنشأ مدرسة فى غرفة واحدة وإنتهى إلى أن أصبح عميدًا لجامعة نتيجة طريقته فى التعليم برغم فقر المنطقة وقلة الإمكانيات! هناك كتاب آخر بعنوان (The Teacher) أو "المدرس" وفيه تحكى المؤلفة والمدرسة سيلفيا أشتون وارنر (Sylvia Ashton-Warner) تجربتها فى تعليم أطفال من بيئات فقيرة وكيف أنها إبتكرت طرق تعليم جديدة (وبدون موارد تقريبًا). يوجد العديد والعديد من الكتب التى تحكى التجارب الشخصية لمدرسين لا يملكون إلا الموهبة وحب الطلاب وحب التدريس ويعملون بلا موارد تقريبًا وتكون نتيجة ذلك ظهور أجيال تغير وجه العالم، فماذا لو استقطعت الدول بعض الموارد لهذا الغرض النبيل الذى هو استثمار للغد وللحاضر أيضًا فالطلاب الذين يهربون من التعليم لعدم وجوده أو عدم تقديمه بالطرق المناسبة يكونون خطرًا على المجتمع (إذا إتجهوا إلى الجريمة) أو حملًا زائدًا على المجتمع (إذا لم يجدوا ما يعملونه)، لذلك استيعابهم فى العملية التعليمية هو خط دفاع للحاضر وبذرة تقدم للمستقبل. وهذا ينطبق على كل الدول حتى وإن كانت فى حالة حرب أو صراع لأن الحروب (وهى غير القتال الذى هو جزء من الصراع) إن وجدت قد تمتد لسنوات طويلة فهل نخسر الأجيال القادمة من أجل صراعات اليوم؟ بل إن الحروب نفسها تحتاج العلم لذلك من وجهة نظرى تعتبر وزارات التعليم والتعليم العالى والبحث العلمى من أهم مؤسسات أى دولة إن لم تكن أهمها لأن كل المؤسسات الأخرى تحتاج إلى العلم.

العملية التعليمية تعتمد على ثلاثة أشياء: الطالب والمدرس والإدارة، لنتحدث فى بقية المقال عن الإدارة، أولًا دعنا نتفق أن أسوأ وسيلة لإختيار المدير هو الأقدمية وفقط لأنه لا يجب أن تجعل مستقبل مدرسة كاملة مثلًا فى يد شخص لمجرد أن كبر فى السن وقد ناقشنا فى مقال سابق مفهوم الخبرة، الإدارة ليست جائزة نعطيها لشخص، دعنا أيضًا نتفق أن أسوأ الأشخاص هم من يقبلون منصب إدارى من باب المنظرة أو لأسباب مالية فقط (والعالم ملئ بقصص شركات عملاقة تهاوت لسبب مثل ذلك)، إذا إتفنا على هاتين النقطتين نصل إلى سؤال مهم: ماهى صفات المدير الناجح لمدرسة (فى هذا المقال نركز على المدارس وسنتكلم مستقبلًا عن الجامعات والمراكز البحثية)؟

فى أكتوبر من هذا العام 2016 نشرت مجلة العلوم الإدارية ذائعة الصيت Harvard Busimess Review مقالًا بعنوان (The one type of leader who can turn around a failing school) أو "نوع الإدارى الوحيد القادر على إنقاذ مدرسة فاشلة"، مؤلفو هذا المقال يتحدثون عن المدارس فى إنجلترا ولكن نتيجة هذا البحث يمكن أن تعمم على جميع المدارس بعامة، البحث درس 411 مدير مدرسة وطريقة إدارتهم باستخدام 64 عنصر للإدارة ووجدوا أن المديرين خمسة أنواع.

النوع الأول ويطلقون عليهم اسم الجراحين، هذا النوع يبدأ بدراسة العناصر التى تعيق تقدم المدرسة (سوء نتائج امتحانات الشهادات العامة مثلًا) ويقتطعوا هذا الجزء السئ، فمثلًا لمعلاجة سوء النتائج يفصلوا التلاميذ الضعيفة من المدرسة ويوجهوا الموارد لمن يظنون أنه سيستفيد بها للوصول إلى النتائج المرجوة، طبعًا نتائج الامتحانات العامة لهذه المدرسة ستتحسن ولكن هناك مشكلة: توجيه أغلب الموارد لطلبة الشهادات العامة ووضعهم تحت ضغط الفصل فى حالة عدم التميز يجعل الطلبة فى السنوات الدراسية الأخرى أضعف وحين يصلوا إلى الشهادات العامة تكون النتائج سيئة مرة أخرى، إذا فهذه الطريقة سيئة ولا تعطى النتائج المرجوة بعد ذهاب المدير.

النوع الثانى ويطلقون عليه النوع العسكرى حيث يتميز بالإدارة الحازمة والنظام والانضباط، يركز هذا النوع على تقليل المصروفات والأنشطة الزائدة التى لا تساعد على الأهداف الإقتصادية، طبعًا ستتحسن الحالة الإقتصادية لهذه المدارس ولكن نتائج الشهادات العامة ستظل سيئة وعندما يرحل هذا المدير ستتدهور الحالة الإقتصادية أيضًا.

النوع الثالث ويسمونه المحاسب وهو يعرف كيف يزيد الدخل الإقتصادى للمدرسة (أنشطة مسائية بمصاريف، تأجير ملاعب فى أوقات العطلات، . إلخ)، الحالة الإقتصادية ستنتعش ولكن نتائج الإمتحانات العامة تظل كما هى.

النوع الرابع يطلقون عليه لقب الفيلسوف، هذا النوع يهتم بالمدرسين ويجتمع بهم كثيرًا ليشرح لهم أهمية دورهم ويشجعهم، ولكن لا شئ يتغير فى النتائج لأن المدرسين لا يغيرون أساليبهم الدراسية وطرق تعاملهم مع الطلاب.

النوع الخامس يسمونه المعمارى، هذا النوع يعرف التخطيط وأغلب المديرين (وليس جميعهم) من هذا النوع جاءوا من الصناعة ولم يكونوا مدرسين أصلًا، قدراتهم التخطيطية تجعلهم قادرين على إتخاذ الطريق الصحيح، فأولًا يحسنون البيئة التعليمية داخل المدرسة حتى يستطيع المدرسون العمل بجدية (وهذا يتطلب أكثر كثيرًا من مجرد الجلوس مع المدرسين وتشجيعهم)، أيضًا يضعون نظامًا تربويًا للتعامل مع الطلاب ليحب الطالب العلم لاأن يطلبه خوفًا من المدير أو طمعًا فى الدرجات، بالإضافة إلى ذلك يحاولون زيادة الدخل عن طريف بعض المشاريع (مثل النوع الثالث)، بمعنى آخر يخططون بنظرة شمولية وهذا هو النوع الناجح، المدرسة الناجحة ليست مجرد نتائج إمتحانات بل هى إدارة مؤسسة كاملة وتحسين بيئة، النتائج هنا تكون بطيئة ولكن بخطى ثابتة. سنتحدث فى المستقبل بتفصيل أكثر عن هذه النظرة الشمولية.

قبل أن أنهى هذا المقال أحب أن ألفت نظر القارئ لكتاب رائع وملهم من تأليف جون ماكفى (John McPhee) بعنوان (The Headmaster) أو "الناظر" وهى قصة حقيقية لشاب صغير أرسلته وزارة التعليم إلى مدينة نائية لإدارة مدرسة صغير غير معروفة وتقريبًا معدومة الموارد مسجل بها 14 طالبا، قبِل هذا الشخص المهمة بشكل مؤقت لأنه كان يحتاج أن يجمع المال من أجل دراسة القانون (القانون فى أمريكا فى الدراسات العليا فقط وليس مثل عندنا فى مصر فى مرحلة الليسانس)، دخل هذا الشخص (ويسمى فرانك بويدن) هذه المدينة الصغير النائية وليس فى يده سوى حقيبة ملابسه، ولم يخرج من هذه المدينة إلا بعد ستين عامًا وقد أصبحت هذه المدرسة من أعظم مدارس أمريكا إلى وقتنا هذا ويدخلها أبناء الرؤساء وعلية القوم (إن استطاعوا تجاوز إمتحان القبول!). الكتاب يحكى ماحدث طوال هذه المدة وبطريقة شيقة للغاية.

المقال الذى تحدثنا عنه أعلاه يبدأ بجملة أعتقد أنها تكون ختامًا جيدًا لمقالنا هذا: "قوة اقتصاد البلاد وحيوية مجتمعها تعتمد على نوعية مدارسها".

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved