هل من لوثر عربي؟!

إكرام لمعي
إكرام لمعي

آخر تحديث: الجمعة 29 أكتوبر 2021 - 8:30 م بتوقيت القاهرة

يحتفل العالم فى 31 أكتوبر من كل عام برائد الإصلاح الدينى فى العالم، ومفجّر ثورة الإصلاح الدينى أو الفقهى اللاهوتى والذى يمكن القول عنه ــ بلا تردد ولا مبالغة ــ أنه فعلًا غيّر وجه التاريخ، فالعالم بعد لوثر لم يعد هو كما كان قبله، ومازال تاريخ الإصلاح الذى وقع منذ أكثر من خمسمائة عام ماثلًا فى الأذهان كما لو كان لم يمر عليه عدة سنوات قليلة، ذلك لأن لوثر رجل الدين الراهب الألمانى قد غيّر بأفكاره وشجاعته وثورته وجه أوروبا والعالم، بل وكان العامل الأساسى والرئيسى فى أن يصل العالم الأوروبى وبعده الأمريكى إلى مستوى عالٍ من التحضر والسماحة الإنسانية والدينية والعقلانية فى تناولهم لمعظم أمور حياتهم، مما هيأ لهم الطريق لصُنع وتفجير نهضة إنسانية تاريخية غير مسبوقة. ونتيجة لتلك الثورة قفزوا قفزات ضخمة فى التقدم والتطور الإنسانى فى فقه ولاهوت قبول الآخر المختلف دينًا وثقافة وجنسًا، وذلك مع التطور الحضارى الثقافى والتقنى على أرض الواقع فى كل الاتجاهات. فعندما تقوم اليوم بزيارة الجامعات فى باريس أو لندن ونيويورك وغيرهم فى الدول الإسكندنافية وهولندا، من السهل أن تلاحظ نقاشات مفتوحة وجريئة عن تاريخ الأديان، وعقائدها المتعددة والمتنوعة. وعندما تزور مكتباتهم تجدها تعج بمراجع ضخمة قديمة وجديدة، وكتب صادرة حالًا تتناول دراسات عن تاريخ البشرية ومراحل تطورها، وتقدم العقل الإنسانى... إلخ.

•••
إن الثورة التى قام بها لوثر غيّرت وجه التاريخ والعلم والعالم، حيث عاش العالم لقرون طويلة يعتبر التقرب إلى الله والوصول إلى غفرانه لا يتم إلا بعذاب الجسد والنفس وكثرة العبادات من صوم وصلاة... إلخ، وذلك لأن الضمير فاسد والجسد كذلك بسبب الذنوب والآثام، لذلك على الإنسان أن يقوم بفروض وطقوس دينية مؤلمة وطويلة، ولقد عاش لوثر بكل اجتهاد وإخلاص هذه المعاناة للحصول على الغفران الإلهى، وكان يشعر كلما ازداد عذابه ازدادت طهارته وتقواه، لكنه لاحظ أيضًا أنه يعود وبمنتهى السهولة والسرعة إلى الخطيئة والنجاسة والفكر المضطرب نحو الله والناس، ولحسن الحظ كان مارتن يُتقن اللغة اللاتينية وهى الوحيدة المكتوب بها الكتاب المقدس فى أصوله فى ذلك الوقت، وهنا قرر أن يقتنيه ويبدأ قراءته مع الاستمرار فى اعترافاته بخطاياه للكهنة الذين يزيدونه كل يوم إحساسًا عميقًا بالذنب، وبالتالى تعذيبًا مستمرًا لجسده ليتطهر، لكنه بمجرد أن بدأ القراءة فى الكتاب المقدس اكتشف أن ذلك الإله السادى الذى يتلذذ بتعذيبه ليغفر خطاياه إنما هو من صُنع خيال الكنيسة والكهنة فى ذلك الزمان، حيث اكتشف من قراءاته بتمعن للكتاب المقدس أنه يَنُص على أن الخلاص من الخطيئة والآثام والتطهر لا يتحقق من خلال تعذيب الجسد واحتقاره ورفضه، لكنه يتحقق بالالتجاء إلى النعمة (الهبة) الإلهية التى يعطيها الله إلى عباده بالمجان دون صكوك غفران والتى كان يدفع فيها الكثير من المال للكنيسة والكهنة، وأن الله يشتاق أن يرجع الخاطئ عن خطاياه وآثامه ويتوب إليه فيستقبله بكل حب ورحمة وابتهاج، وعندما وصل لوثر إلى هذه النتيجة تغيّر فكره تمامًا نحو الله وعلاقة الإنسان به، ونحو الدين ومفهوم الإيمان والعبادات التى ترضى الله، وهنا تحرر لوثر من الإحساس بالذنب. وهكذا اختلفت نظرته للحياة تمامًا، وأصبح دخوله إلى محضر الله للصلاة والعبادة لا يحتاج إلى وسطاء من البشر مهما كانت وظائفهم الكهنوتية ورتبهم الكنسية، ومهما كانت ذنوبه وخطاياه، ومن أكثر الأفكار التى اكتشفها وعبر عنها هى أن ينشغل الإنسان بالعمل والتطور والاختراعات التى تؤدى إلى التقدم الإنسانى، وذلك ليجعل الحياة أفضل وأجمل وأكثر تطورًا، وذلك بدلًا من أن يفكر فى الجحيم والانتقام الإلهى الجبار والعذاب الأبدى. من هنا نبعت فكرة تقديس العمل لاهوتيًا وفقهيًا فالإنسان لم يعد نجسًا فى ذاته وخلقه، وبالتالى لم يعد العمل اليدوى خطيئة وإثما. لذلك على الإنسان ألا يفكر باليوم الآخر ومصيره الأبدى ليل نهار، بل عليه أن ينشغل بالعمل والاختراعات والتطور، وهذا هو ما يطلبه الله منه (إعمار الأرض) وليست كثرة العبادات، والفرائض من أصوام كثيرة، وتعذيب للجسد، وقضاء الوقت الطويل فى الصلوات والتسبيحات، فالعمل جزء مهم من عبادة الله وإرضائه (العمل عبادة)، والمفاجأة التى أذهلت مارتن لوثر عندما توغل وتعمق فى قراءة الكتاب المقدس اكتشف أن الله يتعامل مع الإنسان الفرد، أى كل فرد على حدة دون وساطة من كهنوت أو أى رجل دين مهما كانت شهرته أو مقامه، فالإنسان يدخل إلى حضرة الله مباشرة من خلال خشوعه ورفعه للصلاة، بل ويمكنه الحوار معه بالاعتراف بخطاياه وتقبل غفران الله منه دون وساطة من بشر، ودون دفع أموال لوسطاء بينه وبين الله ليهبه غفرانه، من هنا أحس لوثر أنه من المهم والواجب الذى وضعه الله على كاهله هو أن يترجم الكتاب المقدس من اللاتينية إلى الألمانية (لغة الشارع)، لكى يعرف كل الألمان ما لهم وما عليهم فى علاقتهم بالله.
•••
وهكذا بعد أن انتهى من ترجمة كل الكتاب المقدس كاملًا من اللاتينية إلى الألمانية أمسكه رافعًا إياه بيده، مقررًا أن يصطدم مع السلطة الكنسية التى تُقدم له ولشعبه مواصفات عن الله ما أبعده عنها، وفى ضوء ما قرأ وما فهم عن الله من الكتاب المقدس، كتب ٩٥ احتجاجًا على ممارسات قيادات الكنيسة والكهنة، والتى لم يجد فى الكتاب المقدس واحدة منها، وقام بتعليقها على باب كنيسة وتنبرغ Wittenberg Church، وكانت هذه الاحتجاجات بمثابة فضيحة رهيبة لممارسات رجال الدين، ومن حسن حظه أن ثورته عاصرت اختراع المطبعة مما جعل لوثر يضع أجزاء من الكتاب المقدس فى يد كل واحد يريد اقتناءه وقراءته.
من هنا خرج الإصلاح الدينى المسيحى بعدة مبادئ هامة جدًا، من أهمها أن العلاقة بين الإنسان الفرد والله علاقة خاصة متفردة لا يوجد بينهما أى وساطة من رجال دين أو أى مؤسسة دينية، وأن تفسير الكتاب المقدس عمل يقوم به كل فرد مع حريته فى استخدام مراجع التفاسير إن وجدت.
•••
والسؤال الذى يلح علينا لماذا نجحت ثورة الإصلاح على يد مارتن لوثر ولم تنجح على يد المصلحين السابقين له؟! والإجابة هى الأمير فريدريك Princ Frederick، ففى ذلك الوقت كانت ألمانيا مُقسَّمة إلى إمارات وكل إمارة شبه مستقلة ولها جيشها الخاص بها، ولقد اقتنع الأمير فريدريك بدعوة مارتن لوثر فأخذه إلى مقاطعته وقام بحمايته حتى نجحت الثورة وانتشرت، وهكذا نرى أن أى إصلاح جديد يحتاج إلى قوة تحميه، ولأجل ذلك نجد أن الثورات الدينية التصحيحية أو الإصلاحية لن تنجح فى بلادنا إلا بتعضيد من السلطة التى تحكم، ونحن نستطيع أن نرصد ما يحدث فى السعودية هذه الأيام من انفتاح لم نكن نحلم به، لكن لأن الأمير محمد بن سلمان هو الذى يقوم بهذا الأمر أو قل مقتنع به ويحميه وإلا ما كان يمكن أن ينجح الأمر، وهو ما حدث فى الإمارات وفى بلاد أخرى، وهنا علينا أن نلاحظ الخطوات التى يقوم بها الرئيس السيسى لأجل التجديد والانفتاح والإصلاح الدينى، وهذا الأمر يحتاج إلى حوار مجتمعى مع المؤسسات الدينية من ناحية ومع المثقفين والفلاسفة والمصلحين من الناحية الأخرى، ولا يتم ذلك إلا من خلال مشروع متكامل يتبناه الرئيس السيسى ويعطيه من وقته الكثير كما فعل الأمير فريدريك مع لوثر فى ألمانيا.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved