«ناقة الله».. أوديسة الوطن والصحراء

محمود عبد الشكور
محمود عبد الشكور

آخر تحديث: السبت 29 أكتوبر 2022 - 8:40 م بتوقيت القاهرة

فى هذه الرواية مستويات متعددة لمعنى الرحلة، سواء كانت مكانًا، أو زمانًا، أو حتى الرحلة بمعناها الروحى والصوفى.
فكرة المغامرة هنا ليست مجرد انتقال فى الصحراء، والصحراء ليست هى الجغرافيا المحدودة التى نعرفها، لأنها تتحول فى كتابات الروائى الليبى إبراهيم الكونى عمومًا، إلى العالم كله على اتساعه، عالم المادة والروح، مع كل المجازات والاستعارات والتأملات الممكنة.
الرواية الصادرة عن دار كيان بعنوان «ناقة الله»، وصلت إلى القائمة القصيرة لجائزة مان بوكر فى العام 2015، ويستلهم فيها إبراهيم الكونى من جديد عالم الصحراء، وعلاقة بطلها الشاب بناقة تكاد تصبح إنسانًا، من فرط شعورها وتصرفاتها.
براعة الكونى مشهودة فى هذا المجال، وله رواية لا تُنسى بعنوان «التبر»، تتحرى أيضًا علاقة بين شاب وبين جمل أبلق بديع، يغير تمامًا من حياة صاحبه.
ولكن بينما كانت الفكرة المحورية هى تعلم الشاب لمعنى الحرية فى «التبر»، فإن الفكرة فى «ناقة الله» تدور حول مغامرة العودة إلى الوطن كمكان وكهوية، لا سبيل إلى نسيانهما، وبدرجة أكثر تعقيدًا، مما قد يبدو عليه النص لأول وهلة.
الوطن حاضر فى النص أولًا من خلال الناقة، لأنها تذكر صاحبها بموطنه، وحاضر أيضًا من خلال محاولات هذه الناقة المستمرة أن تهرب من المنفى فى الشمال، إلى مكانها الأصلى فى الجنوب، فكأنها تترجم حنينًا جارفًا يشعر به صاحبها، ولكنه يتردد فى أن يعود، خوفًا مما يحدث فى الوطن من قهر وظلم، ثم تأخذ الفكرة بعدًا أكثر عمقًا فى النهاية، عندما تبدو رحلة العودة المشتركة بين الناقة وصاحبها، رجوعًا إلى رب الوطن، وكأنها محاولة صوفية للخلاص والتحرر من الحياة الأرضية.
تتحقق هذه المستويات بذلك المزيج الذى نجده دومًا فى روايات الكونى، وأعنى بذلك المزج بين الواقعى والأسطورى، بين تفاصيل البشر والأماكن والحيوانات والنبات والطقس، وبين دلالات تتجاوز حضورها الواقعى، بين عالم خارجى ممتلئ بالرمال والرياح وكائنات الصحراء، وبين عالم داخلى للشخصيات، يمتلئ بالهواجس والكوابيس والأحلام، ويكتظ بالأسئلة الكبرى، بل إن رواية «ناقة الله» تعيد تعريف المصطلحات السائدة من جديد، وتحاول أن تجد لها معادلًا آخر، وكأن هناك محاولة للسفر أيضًا عبر الكلمات والمعانى والتأملات.
لا توجد حدود بين الناقة «تاملّالت»، وبين صاحبها «أسيس»، هى عمره وتاريخه الخاص، أنقذها من العطب، ورعاها كأم وكأب، فأصبحت كائنًا غير عادى.
لا نجد للشاب حبيبة، ولا نعرف له اهتمامًا وانشغالًا إلا الناقة، وعندما يحدث الاستقلال، وتتفكك مملكة تينبيكتو، يتم اضطهاد السكان الملثمين (الطوارق)، وممارسة تفرقة عنصرية معكوسة، ضد أصحاب البشرة غير السوداء، فيهرب «أسيس» بناقته إلى الشمال.
يسيطر على حنينه الجارف، ولا تزعجه سوى محاولات ناقته المستمرة للهروب، لكى تعود إلى الوطن، ولكن لا يمكن أبدا أن يشفى الغريب من الحنين.
تفشل كل محاولات «أسيس» لربط ناقته فى عقال الغربة، حتى عندما يعمل بالنصيحة، ويجعلها مرتبطة بالحمل والذرية، تهرب تاملّالت فى اتجاه الوطن من جديد، وتقتل وليدها لكى تتحرر من كل ما يمنع عودتها، فلا يجد «أسيس» سوى أن يرافق ناقته فى رحلة أخيرة للخلاص، مهما كان الثمن.
كأن «تاملّالت» هى مرآة «أسيس» التى يرى فيها وطنه ومأساته وتاريخه ولحظات نجاحه، وكأن الحيوان بصفاته الإنسانية، وبحضوره الخارق والأسطورى، هو دليل عصرى لأوديسة صحراوية متفردة، تمنح «أسيس» فرصة مراجعة، وإعادة اكتشاف، حياته بأكملها، ثم السير، مثل بطل تراجيدى، فى اتجاه قدره المحتوم.
لا شىء يشبه صحراء إبراهيم الكونى، سواء فى مستواها الواقعى وصفًا ورسمًا بالكلمات، أو فيما يستخرجه من تفاصيلها من معانٍ ورموز وأسئلة، وإن كنت أعتقد أن رواية «ناقة الله»، بعكس رواية «التبر» المحكمة والمكثفة، تعانى من كثير من الاستطراد، الذى أثقل السرد.
كثير من اللوحات والتأملات جميل فى حد ذاته، ولكنه لا يبدو كذلك عندما يكون جزءًا من نص متماسك، هو فى جوهره رحلة متصلة، كما أن تقسيم السرد إلى أجزاء، لم يكن أيضًا فى صالح هذه الشحنة الوجدانية المتصلة المفترضة، ولا فى صالح هذا الصراع المستمر، العنيف والصاخب، بين «أسيس» وناقته، وهو فى الواقع معادل للصراع بينه وبين نفسه، وبين تاريخه، وبين قدر قبيلته وأهله، الذين اختاروا الحرية، والذين دفعوا ثمن استقلال دول، قسمها الاستعمار قبل رحيله.
يبدو لى أيضًا أن صوت الكونى نفسه، عاشق الوطن، والذى يراجع هنا بشكلٍ شخصى فكرة الغربة، قد كان أعلى من صوت «أسيس».
يتدفق السرد فى مناطق كثيرة مدهشة، فيقطعه صوت المتأمل والمراجع والمؤرق بالوطن، والذى لا يريد أن يفلت شيئًا فى الصحراء، دون أن يستقطره شجنًا وشعرًا وألحانًا، ودون أن يأخذه إلى ذروة تجربة روحية صوفية، لم يمهِّد لها السرد بشكلٍ كاف، فيما يتعلق برسم شخصية «أسيس» نفسها، ولا شك أن ذلك قد أثر بوضوح على صورة سماوات السرد، رغم امتلائها بالنجوم اللامعة.
أعتقد كذلك أن طموح الكونى اللغوى، وقدراته البلاغية المعروفة، وجدا هنا مساحة غير محدودة باتساع عالم الصحراء، هناك إغراء لم يقاومه بأن يجعل من «ناقة الله» قصيدة ممتدة، وأن يحول الرحلة إلى مقطوعة موسيقية للحنين والمغامرة، هذا الطموح عظيم ولافت، بشرط أن يتم من خلال السرد، وليس موازيًا له، أو متقاطعًا معه.
ولكن هذا العالم الذى نراه بعين الكونى، يجعلك تولد من جديد، من رحم الدهشة والاكتشاف، فالحياة تبدو هنا كوحدة واحدة، الوجود كتلة متماسكة متعددة التجليات، والصحراء هى الجنة الحقيقية، وعالم الإنس والجان الخفى والحيوان والنبات لوحة واحدة متعددة الألوان، والله والقدر حاضران فى كل شيء.
أما الحرية وتحطيم الأغلال فهما المبدأ والمنتهى، وهما القيمة الكبرى عند إنسان الصحراء، فى كل عصر وأوان.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved