التغيير هناك تقوده الصين.. من يقوده هنا؟

جميل مطر
جميل مطر

آخر تحديث: الأربعاء 29 نوفمبر 2017 - 8:15 م بتوقيت القاهرة

قضيت جانبا من وقت الأيام الماضية أتابع تطورات السياسة فى جنوب وشرق آسيا. دفعنى وشجعنى الدعم الذى حصل عليه الرئيس الصينى من أعضاء المؤتمر التاسع عشر للحزب الشيوعى الصينى. حصل الرئيس شى على دعم فى مسألتين، الأولى تتعلق بالشأن الداخلى إذ أصبح الرئيس بفضل هذا الدعم رئيسا مطلق الصلاحيات لا ينتظر رأى أى قيادة جماعية مثل تلك التى ميزت عهد الرئيس الأسبق ومفجر ثورة الإصلاح، دينج تشاو بينج. بهذا التطور فى نظام القيادة الصينية يحوز الرئيس تشى على صلاحيات وسلطات لم يحظ بها رئيس آخر منذ عهد الرئيس ماو مؤسس الصين الحديثة. المسألة الثانية التى حصل الرئيس على دعم من المؤتمر بشأنها تتعلق بالخارج. إذ يحق للرئيس بمقتضى هذا الدعم أن يصدر التوجيهات ويطلق عقال جميع مصادر القوة الصينية لتحقيق حلم الحزام والطريق والتربع على عرش قيادة العالم فى موعد لا يتجاوز منتصف القرن، أى خلال الثلاثين عاما القادمة.
***
لم تأت هذه التطورات من فراغ ولم تمثل مفاجأة لكثير من المتخصصين فى أمور الصين. إلا أنها هى وغيرها من تطورات أسفرت عنها المؤتمرات الدولية التى عقدت أخيرا فى الإقليم أثارت اهتماما خاصا لدى متابعى قضايا التغير والتحول فى النظام الدولى والنظام الإقليمى لدول جنوب شرقى آسيا. أثارت فضولى أيضا. إذ تصادف وقوع تغيرات فى طبيعة وكثافة النزاعات والتحالفات فى إقليم جنوب شرقى آسيا مع زيادة توقعاتنا عن وقوع تغيرات مماثلة أو أشد حدة فى الإقليم الذى ننتمى إليه ونعيش فيه.
لفت نظرى ومعلقين آخرين إصرار الرئيس ترامب على التخلى عن مسئولية أمريكا ومكانتها فى اتفاقية التجارة عبر الباسيفيكى والحلف الآسيوى الباسيفيكى بالحجة التى لم يفتأ يستخدمها لتبرير انسحاب بلاده من موقع أو آخر من مواقع القيادة والمسئولية الدولية. تحجج بأن أمريكا لم تستفد من تحالفاتها الجماعية، فالدول الحليفة لا تدفع أنصبتها المالية بينما تعتمد فى أمنها وسلامتها على القوة الأمريكية. قرر، وأبلغ شركاءه، أنه سيقيم جميع علاقاته مع الخارج على أساس ثنائى. لا يوجد حتى الآن ما يدل على أن من بيدهم تنفيذ هذا القرار من كبار الموظفين والعسكريين التزموا به واستعدوا لتنفيذه بل يوجد ما يشير إلى النية فى التقاعس عن التنفيذ إن لم يتمكنوا من تغييره. رأينا مثلا أنهم تركوا الرئيس يقول ما شاء عن حلف الناتو وعن نيته الامتناع عن الدفاع عن دولة فى الحلف مهددة ولا تدفع نصيبها فى ميزانية الحلف، حرصوا بعدها على أن لا يظهر كلام الرئيس فى محاضر وبيانات مؤتمر الحلف.
الأمر بدا مختلفا بعض الشىء فى آسيا. كان واضحا منذ وقت غير قصير أن قيادة أمريكا فى الحلف الآسيوى الباسيفيكى صارت محل شك. بات واضحا أيضا أن الرئيس ترامب فى غير حاجة لأن يستخدم حجته التقليدية للتخلى عن مسئولية القيادة فى هذا الحلف. ما حدث لا علاقة له بالتكلفة المادية والسياسية التى يمكن أن تتحملها واشنطن لو استمرت تقود الحلف، إنما له علاقة مباشرة بواقع جديد خططت له ونفذته الصين لتتولى منفردة مسئولية قيادة مجموعة الدول الواقعة ضمن حيز النظام الإقليمى لدول جنوب شرق آسيا. أخطأ محللون عسكريون عندما قرروا قبل سنوات أن حلفا يمكن أن يقوم فى جنوب شرقى آسيا على نسق حلف شمال الأطلسى أى حلف الناتو. أسباب الخطأ ثلاثة على الأقل، أولا: لا وجه شبه بين طبيعتى الصراع فى الحالتين. ففى الناتو كانت هناك حرب باردة وحروب ساخنة عديدة وكان على الدول ذات العلاقة تحديد موقع ولائها بشكل قطعى. لا يوجد فى جنوب شرقى آسيا صراع حقيقى بين قطبين دوليين أو إقليميين ولا توجد حرب باردة ولا حروب بالوكالة ساخنة. ثانيا: ولاءات دول الإقليم ليست قاطعة. جميع دول جنوب شرق آسيا معتمدة على التجارة مع الصين ولا تستطيع الانفكاك عن هذه العلاقة أيا كانت الأسباب والظروف. من ناحية أخرى فإن هذه الدول جميعا تجد صعوبة فى التخلى عن علاقتها بأمريكا، هذه العلاقة المشيدة فوق تعاون عسكرى واستخباراتى وثيق مع الولايات المتحدة وقواعد عسكرية أمريكية وبرامج تسلح وتدريب. ثالثا: لا شك لدى كثير من المتخصصين فى أن هذه الدول الصغيرة صارت تميل إلى القبول بالأمر الواقع الجديد، وهو تحول النظام الإقليمى الذى اعتمد فى هياكله على وجود قطب دولى أعظم، هو أمريكا، إلى نظام إقليمى بمواصفات جديدة تقوده الصين ومستقل بعض الشىء عن النظام الدولى الراهن.
***
المثير على المستوى النظرى والعملى هو أن هذا الوضع الفريد فى نظم التحالفات والنظم الإقليمية دفع بالولايات المتحدة إلى الاقتناع بفكرة قديمة سبق أن دعا إليها السيد آبى رئيس وزراء اليابان، وتقَضى بإنشاء تجمع هندى ــ باسيفيكى يضم الدول الأكبر فى آسيا باستثناء الصين يضم اليابان والهند واستراليا والولايات المتحدة، وكانت اليابان قد أعطته اسم الحوار الأمنى الرباعى، اسم إن دل على شىء فإنه يدل على نقص ثقة أصحاب الفكرة فى قدرتهم على إقامة حلف حقيقى يواجهون به العملاق الصاعد فى شرق آسيا. لا ننسى أن اليابان مازالت طريقها طويلة ومكلفة نحو بناء قوات مسلحة قوية وفاعلة وفى الوقت نفسه لا تكون على حساب إنجازات اليابان الاجتماعية. لا ننسى أيضا أن النظام السياسى الهندى قام على أساس أخلاقى يرفض التبعية لأى قوة أجنبية أو الدخول معها فى صفقة غير متكافئة، وقد يتسبب الخروج عن هذا الأساس الأخلاقى فى هزات سياسية عميقة. لا ننسى فى الوقت ذاته أن استراليا تكاد تقترب من الاعتماد اقتصاديا على تجارتها مع الصين ولن تشترك فعليا فى حلف مناهض شكلا ومضمونا لها. أما الرابعة، أى أمريكا، فنحن أيضا لا يجب أن ننسى أنها إلى جانب اعتمادها المتبادل على الاقتصاد الصينى فإنها تفتقر حاليا إلى سبب معقول يدفعها إلى إقامة حلف مناهض للصين، التى هى بالتأكيد ليست عدوا لأمريكا كما كانت روسيا وقت إقامة الناتو.
***
ما أبعد الشبه بين أوضاع إقليم جنوب شرقى آسيا وأوضاع إقليم نعيش فيه ولا نشعر بانتماء كاف إليه لأننا لم نعد نعرفه. نظام إقليمى يتغير هناك ونظام إقليمى يتغير هنا.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved